الخميس، 11 نوفمبر 2010

وقَفات مع شيخ المترجمين العمانيين

وقفات مع شيخ المترجمين في عُمان، محمد أمين عبدالله
لا أظن أحدا، من عامة المثقفين العمانيين و خاصتهم، يجهل الأستاذ محمد أمين عبدالله، شيخ المترجمين العمانيين دون منازع. فالرجل يملك رصيدا من الأعمال التي ترجمها، تنوء بها العصبة أولو القوة من المحترفين في الترجمة. فمنذ السبعينيات و حتى آخر نفس في حياته، كان يقدم للمكتبة العمانية عشرات المؤلفات المعنية بعُمان، ينقلها من الإنجليزية إلى العربية بلغة أدبية رصينة يفتقر إليها اليوم كثير من علوج الترجمة و هُجنائها في العالم العربي. تقرأ ترجماته فتشعر أن الرجل يمتلك ناصية اللغتين؛ المصدر و الهدف. قليلا ما تقف في كتاباته على أخطاء لغوية مما يقع فيه اليوم كثير من محترفي الترجمة، ممن قد يتقنون اللغة الأجنبية، ولكنهم للأسف لا يقيمون فاعلا و لا مفعولا في لغتهم الأم! و حسبه أيضا الريادة في هذا الفن فيما يتعلق بعمان؛ إذ كان فاعلا في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية في وقت كان الكثير فيه من بني وطنه يعانون من أمية القراءة و الكتابة.
و مع ذلك فإن ترجمات محمد أمين المختلفة تعاني من بعض القصور في الترجمة. و لا أريد في هذه العجالة أن أدرس ترجماته دراسة منهجية، و إن كانت تستحق ذلك لكثرتها و تنوعها. و لكني بما يسمح لي به الوقت، أود تسجيل ملاحظات كنت قد دونتها إبان دراستي في إنجلترا لأدب الرحالة الأوروبيين في عمان. و هي وقفات متأنية تمت عبر مقارنات بين النص الإنجليزي و النص العربي في بعض أعمال محمد أمين، التي نشرتها وزارة التراث و الثقافة، و سأخص بالذكر منها هنا كتابي بيرترام توماس (البلاد السعيدة، 1981)، و (مخاطر الاستكشاف في الجزيرة العربية، 1981).
1-   الاختصار و الحذف في الترجمة:
قد يكون الاختصار و الحذف أمرين مشروعين في الترجمة الحرة، التي لا يلتزم فيها المترجم حرفيا بالنص الأصلي. و لكن هذا التصرف قد يؤدي، أحيانا، إلى مغالطات صعبة في الدراسات الثقافية أو المقارنة، التي تعتمد اعتمادا كليا على النص المترجم. و كثيرا ما يحذف محمد أمين في ترجماته، حذفا يصل أحيانا إلى ثلثي الكتاب. فكتاب (مخاطر الاستكشاف في الجزيرة العربية) لبيرترام توماس يتكون في نصه الأصلي من 293 صفحة، تم اختصاره في العربية إلى 83 صفحة. و حتى لو قلنا بأن المترجم اكتفى منه بالقسم المتعلق برحلات توماس في عمان و تجنب رحلاته في العراق، فإن هذا القسم يتكون أصلا من حوالي 178 صفحة، فأين ذهب أكثر من نصفه ؟. ثم إن المسألة ليست مسألة أرقام، و لكنها أخطر من ذلك؛ فهي تتعلق بحذف آراء هامة للمؤلف حول الثقافة في عمان و أنساقها. فقد أفسح توماس في كتابه هذا صفحات كثيرة للحديث عن بعض المظاهر الثقافية في عمان خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، مثل تقاليد "البرزة" و إنشاد الشعر فيها، و طريقة جلب الماء من البئر، و شَيِّ اللحم على الحصى، و طريقة الأكل الجماعي و استخدام اليد فيها أو كما يعبر توماس بلغة ساخرة "غمس أبو خماس في جبل من الرز". بل انطمست في الترجمة العربية العديد من المواقف الانتقادية التي اتخذها توماس تجاه بعض المعتقدات العمانية مثل خلو المساجد الإباضية من الزخرفة، و اللجوء إلى الشعوذة و الأساطير في علاج بعض الأمراض، إلى غير ذلك مما يجعل الترجمة العربية جد فقيرة في دراسة آراء الأوروبيين و مواقفهم المختلفة من الثقافة العمانية. و ما كنت، شخصيا، لأعتمد على هكذا ترجمة في تحليل أدب الرحالة البريطانيين في عمان. و مثل هذه الترجمات فِخَاخ حقيقية لبعض الكسالى و المعوزين من ثنائية اللغة، حين يعتمدون عليها في تحليل الخطاب الغربي. 
و كتاب (البلاد السعيدة) قد يكون أحسن حظا من سابقه، فالحذف فيه أقل، و إن كان يصل إلى صفحات عدة. و سأقف هنا أمام حالتين، إحداهما أن المترجم حذف جملة في مقدمة الرحالة لكتابه، هي غاية في الأهمية و لا مبرر لحذفها لأنها تعكس موقفا أو رأيا لهذا الرحالة الأوروبي حول الإسلام، أو على وجه الدقة إسلام أهل عمان بشكل خاص. فبرترام توماس في معرض حديثه عن الأسباب التي جعلت الجزيرة العربية ”الأرض المحرمة“ على المكتشفين الأوروبيين في وقته، ذكر من جملة هذه الأسباب التعصب الديني لأهل المنطقة، و هو في ذلك يرى أنهم فرضوا الإسلام بالسيف. يقول توماس: ”ثانيا، عقيدة هؤلاء البدو، في التطبيق على الأقل، متعصبة و منغلقة. و لطالما اعتقدوا بأن فرض الإسلام بالسيف من الاستقامة في الدين.“ و نرى أن محمد أمين عبدالله اختزل هذه الفقرة في الترجمة هكذا: ”السبب الثاني: هو أن هؤلاء السكان متعصبون لعقيدتهم الدينية“. و هذا التصرف في النص الأصلي يؤدي إلى مغالطات خطيرة فيما لو قام باحث، معتمدا على الترجمة فقط، بدراسة أراء برترام توماس حول المسلمين و ثقافتهم في الجزيرة العربية. 
و الحالة الأخرى في هذا الكتاب أن المترجم حذف صفحة (29) من النص الأصلي، و في رأيي لا مبرر لحذفها، و إن كانت تحمل وصفا بشعا لأحد الولاة في صلالة بأنه "وجهه صفيق، و له عثنون خشن طويل، و هيئة مزرية"؛ لأن تحامل توماس على هذا الرجل كان عنصريا صارخا، و هو يحدثنا في نفس الصفحة بأنه كان يشكو من وضعه المالي الفقير، بينما يحصل الإنجليز على مبالغ طائلة في بلده. و ما كان ليصفه بهذه الأوصاف العنصرية لو لم يعبر عن رأيه السياسي هذا. و حذف مثل الآراء، كما ذكرت تحرم القارئ العربي من تكوين صورة دقيقة و واقعية حول مواقف الأوروبيين من الشرقيين، و فيضان عنصريتهم عن قصد و عن غير قصد أحيانا.
2- الإضافة في الترجمة:
إذا كان الحذف، رغم مزالقه الخطيرة، قد نجد له مندوحة أحيانا، فما الذي يمكن أن يبرر إقحام المترجم جملة أو فقرة في النص الأصلي؟ هذا ما كان يمارسه، للأسف، محمد أمين أحيانا في ترجماته، مما يزيف الحقائق، و يشوه الترجمة.  ففي كتاب (البلاد السعيدة) نسب إلى برترام توماس كلاما لم يقله، و هذا الأمر خطير أيضا في الدراسات المقارنة التي تعنى بآراء كتاب أجانب حول أمّة ما. لنقارن بين ترجمة محمد أمين لفقرة من كتاب ”البلاد السعيدة“، و بين ترجمتنا لها لتتضح خطورة هذا الأمر.
الترجمة الأولى (محمد أمين): ”بدأ اليوم بصلاة الصبح، و أخذ المرافقون الذين ناموا على العشب يستعدون ليومهم الجديد و قد أدى الشحرة و القرا الصلاة و هم جلوس في أماكنهم بعد أن تيمموا للصلاة، و قد سألت كيف يبيح مذهبهم الشافعي التيمم؟ ...أما العمانيون الثلاثة و هم من العناصر الإباضية المحافظة فقد توجهوا للوضوء من إحدى برك الماء، لأن مذهبهم لا يبيح لهم التيمم و كان الثلاثة يحملون بنادقهم معهم.“  
الترجمة الثانية (هلال الحجري): ”حان وقت صلاة الفجر، و نهض رفاقي، و قد ناموا على العشب، يظهرون بعض الحياة. انتصب فرادى و جماعاتٌ من القَرَى و الشحرة للصلاة بعد أن تيمموا لها، و قد عجبت من هذه السماحة في مذهبهم الشافعي. في حين أن ثلاثة من رفاقي العمانيين الإباضية كانوا حريصين على الشكليات، فانطلقوا، يحملون بنادقهم – ولن تجد أحدا في هذه الجبال يمشي دون سلاح – إلى بركة في الوادي، لأنهم يعتقدون أن صلاتهم لا معنى لها دون وضوء.“
أولى الملاحظات على النصين، أن في ترجمة محمد أمين، نعلم بأن رفاق توماس من الشحرة و القَرَى أدوا الصلاة جلوسا، و  الثانية أن المذهب الإباضي لا يبيح التيمم. و هذا تدخل في النص و عبث به لأن توماس لم يقل هذا على الإطلاق. و هنا يكمن الخطر، فعندما يأتي دارس لآراء توماس من خلال هذه الترجمة قد يتحامل عليه و لا ينصفه، و ما هو إلا ضحية للمترجم.
 و من أغرب الإقحامات التي مارسها محمد أمين، كانت في كتاب (مخاطر الاستكشاف) في صفحة (65). فبعد ترجمته لحكاية نقلها توماس من أحد مرافقيه البسطاء، و هي من قصص العامة دون شك، و تدور أحداثها حول الرسول الكريم، عليه الصلاة و السلام، و مروره هو و أصحابه برجل بخيل ذبح لهم قطة، ولكن الرسول علم بالأمر فنهى أصحابه عن الأكل، و نادى على القطة فخرجت حية و هربت، و سأل الرسول ربه أن يحاسب هذا الرجل على فعلته، و بالفعل –كما تقول الحكاية- حول الله الرجل إلى دابة لتكون حلالا و يأكلها كل الرجال!
إلى هنا و ينتهي توماس من سرد الحكاية، و لكن محمد أمين يضيف من عنده جملة ساذجة ليختم بها القصة: "و إن هذه القصة –دون مناقشة لها- لتدخل في النفس شعورا عميقا بقدرة الله و إرادته التي تجري على يد رسله من النبيين و الرسل".
أيعقل هذا! هناك أسئلة أقف حائرا أمامها و هي كيف استساغ محمد أمين هذه الخرافة التي يلوكها العامة ليذيلها بهذه الحكمة البلهاء؟ ثم ما الذي حمله على تقويل توماس، و هو غير مسلم، مثل هذا الاعتقاد؟ و هل يجوز أصلا أن يضيف المترجم شيئا من عنده إلى النص الأصلي؟
2-   الخطأ في الترجمة:
هناك كلمات و جمل نقلها محمد أمين إلى العربية نقلا خاطئا، و لا يَظنّنّ أحدٌ هنا بأننا نتصيد في الماء العكر، لأن مثل هذه الأخطاء لا تليق بسمعته كمترجم رائد، أولا، و لأنها، ثانيا، لا تعطي صورة دقيقة لموقف المؤلف و اتجاهه. و الأمثلة على ذلك كثيرة سنقتصر منها على كتاب (البلاد السعيدة). في صفحة (30) يتحدث توماس عن "تقلّب" أنظمة الحكم في الجزيرة العربية، و هو يرى أن هذا التقلب يسري في دم العرب وراثيا، و يستخدم لذلك هذه الجملة "Instability is the chief characteristic of any regime in tribal Arabia ". يترجمها محمد أمين بما لا يوحي إطلاقا بهذا الرأي الخطير لتوماس، هكذا "إن الفردية هي الطابع المميز للعلاقات القائمة بين القبائل العربية و هي شيء متأصل في وجدان الفرد العربي".
و من أطرف ما وقفت عليه في ترجماته الخاطئة، في صفحة (48)، حيث يذكر توماس أن من تقاليد العبيد في ظفار أن أي فرد منهم يخالف عاداتهم و تقاليدهم يتم خلعه و نفيه خارج طائفته، و هو يستخدم لذلك كلمة (ostracism ) التي تعني النفي خارج القبيلة. و لكننا نرى محمد أمين يترجمها إلى "الخصي"! و في هذا تشويه لعادات هذه الطائفة من البشر، التي ربما لا تريد المساس بتقاليدها. و هناك كلمات أخرى مثل (sophistication) التي يترجمها إلى سفسطة، و هي تعني الحنكة و المراس. و كلمة (disabilities) التي يترجمها إلى حقوق، و هي تعني العجز أو القصور، إلى غير ذلك من الهنات لا تليق به.
أما بعد، فقد يفهم من هذه الوقفات بأنها تتبع لعثرات المترجم و تصيد لأخطائه، و ليست الحقيقة كذلك. إن هي إلا ملاحظات أردت منها التنبيه إلى مزالق الترجمة و خطورتها في نقل الثقافات من لغة إلى أخرى. و من جهة أخرى فإنني لا أحمّل الأستاذ محمد أمين - رحمه الله- وحده كل هذه الأخطاء، فقد يكون الناشر، و هو وزارة التراث، قد مارس معظم هذه الهيمنة على النصوص الأصلية، من حذف و إضافة و لي لأعناق بعض الجمل مما لا يتفق مع أهواء بعض العاملين فيها. و لكن هذا أيضا مجرد حدس لا سبيل لإثباته ما دام المترجم قد قبل بنشر هذا الكتب موقعة باسمه، و لم ينشر، في حدود ما أعلم، تعليقا يستنكر فيه مثل هذا التدخل المريع من الناشر.

هناك 7 تعليقات:

  1. عزيزي د. هلال
    لقد أصبت في تحليلك لترجمة محمد أمين واذكر مثالا اخر لحذفه او تلاعبه بالنص الاصلي في ترجمته لكتاب جون ويلكنسون عن الاستيطان والافلاج في جنوب الجزيرة العربية الذي تم إختزاله الى اقل من ثلث عدد صفحاته الاصلي كما ان الكثير من اراء الكاتب تم تغييرها والمضحك ان وزارة التراث كتبت في صدر الكتاب ان "جميع الاراء الواردة في هذا الكتاب على مسؤولية المؤلف"!
    في سنة 2005 استضيف ويلكنسون ليلقى محاضرة عان تاريخ عمان في مركز الدراسات الإسلامية بالغبرة وأذكر كيف انه تبرأ من ترجمة كتاب الافلاج بغضب وقال "ليست لي أية علاقة بهذه الترجمة، هي بعيدة كل البعد عن كتابي الاصلي وأنا أتبرأ من هذا الكتاب" ورماه على الطاولة.

    عبدالله الغافري

    ردحذف
  2. عزيزي الدكتور عبد الله...أشكرك على مرورك هنا...ترجمات الأستاذ محمد أمين يكتنفها الكثير من الغموض، و لذلك لا نملك في مساءلتها إلا النصوص المنشورة، و لا بد من من إلقاء حجر في الغدير الراكد

    ردحذف
  3. لقد أتى محمد أمين عبدالله في فترة حرجة من عمر النهضة المباركة و قد اسهم في اخراج الكثير من الأعمال المكتوبة بالإنجليزية و لا نعلم يقينا بالظروف التي احاطت بالرجل في تلك الفترة ليسقط في الهنات التي ذكرتها دكتور هلال الا أن ذلك لا يعفي الجهات المعنية من اصدار ترجمة جديدة أكثر دقة و مطابقة للنص الأصلي ... ان وضع الكتب المترجمة إلى العربية و التي تتحدث عن عمان ينسحب كذلك على وضع الكثير من المخطوطات العمانية التي تم تحقيقها بأيدي عربية لا تملك المعرفة الكافية عن المجتمع العماني فأتى التحقيق مبتورا مختصرا يشكو الحذف و الفقر المعرفي. و صدق المثل العربي ما حك جلدك مثل ظفرك.

    دمت بود

    خالد الراشدي

    ردحذف
  4. صدقت أخي خالد
    الأستاذ محمد أمين قام بدور ريادي في الترجمة بعمان، و لا نعلم يقينا بالظروف التي أحاطت بترجماته، و لكن أيضا السكوت عن هذه الأخطاء الجسيمة يعد تقصيرا و خذلانا لمبادئ العلم...
    أشكر لك اهتمامك

    ردحذف
  5. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
    حبيت أعقب على موضوعك أخي الكريم..
    بالنسبة للترجمة التي قام بها الأستاذ محمد أمين والمترجمين المحترفين والمتواجدين في ربوع السلطنة وخارجها، فأنهم غير مكلفين بترجمة جميع ما ذكر في النص الأصلي وأنما عليهم فقط ترجمة المعنى والمضمون وليس الترجمة الحرفية، وهذا الدور اللذي يقوموا به أغلب المترجمين المحترفين..
    كل الشكر والتقدير لك عزيزي..

    ردحذف
  6. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف
  7. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف