الأحد، 5 ديسمبر 2010

لا جديد يا برنارد لويس

(هذا مقال نشرته في ملحق "شرفات" بجريدة عُمان تعقيبا على محاضرة ألقاها برنارد لويس بجامع السلطان قابوس الأكبر يوم 11 ديسمبر 2003 بعنوان "العالم العربي في القرن 21"، و أعيد نشره هنا لسبب مهم بالنسبة لي و هو أن الرقيب حينها ارتكب خطأ فادحا في حق نفسه، و حق الصحيفة، و حقي؛ ذلك أنه استبدل بكلمة الصهيونية في المقالة كلمة اليهودية! و هذا أمر جلل لأني لا أدين الديانة اليهودية، و لكني أدين الصهيونية و هي منظمة عنصرية أدانتها الأمم المتحدة، بما فيها سلطنة عمان، بقرار معلن سنة 1975 ورقمه 3379. و قد جاء فيه: "إن الجمعية العامة للأمم المتحدة تقرر أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، و قد طلبت حينها من رئيس التحرير حقا من أبسط حقوق الكاتب و هو التنويه بهذا الخطأ، و لكني للأسف لم أجد أذنا مصغية).
المقال:
حين أعلنت وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية عن قدوم (المستشرق رغم أنفه!) برنارد لويس، ضمن برنامجها الثقافي الطموح، كانت لدي رغبة محفوفة بالفضول لرؤيته أولا كشخص بارز في الغرب، إذ لا تقرأ سجالا حول الاستشراق إلا و اسم الرجل يلوح بين ثناياه. و ثانيا، لرؤيته و هو "يخاطب" عربا من أقصى الجزيرة العربية يفصلهم عن "الصراع في الشرق الأوسط" نأي جغرافي، إن لم يكن نأيا معرفيا و وجدانيا.
في سنة 1990، ألقى برنارد لويس محاضرة في قاعة توماس جيفيرسون، والتي تشرف عليها مؤسسة "الوقف القومي للعلوم الإنسانية" بواشنطن. و كان العنوان المعلن للمحاضرة " الحضارة الغربية: رؤية من الشرق"، إلا أن مجلة (شهرية أتلانتيك) نشرت المقالة في سبتمبر من نفس السنة تحت عنوان "جذور الغضب الإسلامي"، و ذيلته بسؤال"لماذا يمتعض معظم المسلمين، و بشدة، من الغرب، و لماذا يكون من الصعب تهدئة قسوتهم".
و في هذه المقالة، لا يبحث لويس بحث العالم المنصف عن "جذور" الغيظ العارم الذي يجتاح الشرق الأوسط تجاه السياسة الأمريكية في المنطقة، و لكنه بشكل دعائي مغرض يخلق صراعا بين الشرق و الغرب، جاعلا طرفيه العالم الإسلامي ب"رجعيته" و "أصوليته" و "إرهابه"، و الغرب و أميركا، أو "أوروبا و ابنتها" كما يحلو له أن يسميهما، بكل ما تتميزان به من "حضارة" و "علمانية" و "سلام". لويس لا يتحدث أبدا عن جذور الصراع المعروفة، و التي أصبح يدركها حتى رجل الشارع في أوروبا، متمثلة في الجرائم الأمريكية من قتل ملايين الأبرياء في أفغانستان و العراق، و الصومال و غيرها من بقاع الأرض، ناهيك عن دعم إرهاب الدولة الذي يشنه الكيان الإسرائيلي صباح مساء في فلسطين. بل إنه يذهب به التضليل في هذه المقالة كل المذاهب ليروج للسياسة الأمريكية ويلمع صورتها، مصورا جحافلها و ترساناتها الحربية في العالم الإسلامي بأنها بريئة من جريمة الاستعمار. يقول :"بالتّأكيد ليس في أيّ مكان في العالم الإسلامي، و لا في الشّرق الأوسط أو في أي مكان آخر، قد سمحت السّياسة الأمريكيّة لنفسها بارتكاب كوارث أو واجهت مشكلات مشابهة لتلك التي في جنوب شرق آسيا أو أمريكا الوسطى. ليس في العالم الإسلامي كوبا، و لا فيتنام، كما ليس هناك أيّ مكان يمكن أن تكون القوّات الأمريكيّة متورطة فيه بمقاتلين أو حتى مستشارين. لكنّ هناك ليبيا، و إيران، و لبنان، و موجة الكراهية التي تحزن،, و تنذر، و قبل كلّ شيء، تحير الأمريكان ". و فوق الزيف الذي تحمله قطعة كهذه، فإن ريح الصهيونية يكاد يتجشأ بها برنارد لويس في خطابه هذا. فإن إسرائيل و حدها من يقض مضجعها دول مثل إيران و ليبيا و لبنان!
و قد تملكني الضحك من الأعماق حين كنت أستمع لبرنارد لويس في مسقط و هو يحاول تأكيد ما قاله قبل ثلاثة عشر عاما منافحا عن الانتهاكات التي تقوم بها الجيوش الأمريكية في العراق، من أن مفهوم "الاستعمار" كما قرأه في المعجم لا ينطبق على اجتياح كهذا! و قد تملكني الأسى أيضا أن أحدا لم يستطع أن يرد عليه في حينها!
و أذكر أن مترجم لويس في المحاضرة المذكورة نبّه في البداية، ربما بإيعاز منه!، إلى أن الرجل يكره أن يقال عنه "مستشرق"، و يفضل، بدلا منه، و صف "مؤرخ". و لعل هذا الشعور اعترى لويس بعد الهجوم الشرس الذي صبه عليه إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) و سجالاته اللاحقة معه، فإن سعيدا "سلح عليه" كما يقولون في الأدب العربي! متهما إياه و لفيفا آخر من المستشرقين بأنهم "يُمرّغون أنف الثقافة في أوحال السياسة"، مشيرا بذلك إلى تخلي أمثال لويس عن الموضوعية و الصدق الذين يحتمهما الواجب العلمي، و لهاثه حول الأطماع السياسة كتلك التي يكتسبها الآن من جراء وقوفه مع عصابة حمقاء و حاقدة في البيت الأبيض.
و قد وددت لو استطعت أن أناقشه في مراوغته حول مفهوم "الاستعمار"، بأن أبسط المعاجم السياسية و العسكرية تفسر الاستعمار أو الإمبريالية بأنها "سياسة توسيع سلطة دولة ما بالاكتساب الإقليمي، أو بإنشاء هيمنة اقتصادية و سياسية على الدول الأخرى". و ما فعلته أميريكا في بعض من دول العالم الإسلامي هو أضعاف ما يفضي به هذا التعريف. و قد وددت حقا لو كان بإمكاني أن أذكّره بآراء كثير من الدارسين لنظرية "ما بعد الاستعمار" أو(Postcolonialism)  من أمثال جراتي سبيفاك و التي تؤكد بأن الخطاب الغربي نجح كثيرا في تبرير استعمار أوروبا لشعوب العالم الثالث خلال القرنين التاسع عشر و العشرين تحت شعار "المهمة التحضيرية" أو (Civilizing Mission)  ، و ذلك باعتقاد أن هذه الشعوب متخلفة تُعْوزها الحضارةُ الغربية، ولا بد من احتلالها. و كان ينبغي لبرنارد لويس أن يتذكر بأن شعار أميريكا في حربها ضد "الإرهاب" ، و سياسة دعم الديموقراطية في الشرق الأوسط هي جزء من خطاب ذرائعي يهدف بالدرجة الأولى إلى هيمنة سياسية و ثقافية. و لست أدري لماذا يحاول كثير من دعاة الإمبريالية الغربية، الآن، أن يستخفوا بعقول شعوب المنطقة في إعادة طرحهم لشعار "المهمة التحضيرية" و تبريرهم لنوايا النسر الأمريكي في المنطقة. و كشف مثل هذه الأقنعة لم يعد صعبا. لقد استخدمتْ بريطانيا مثلا في المنتصف الأول من القرن التاسع عشر نفس القناع باختلاقها و تضخيمها لمسألة "القرصنة" في الخليج العربي و بأنها كانت تهديدا حقيقيا للتجارة العالمية في بحر العرب و المحيط الهندي. و دأب الرحالة الإنجليز و ضباط شركة الهند الشرقية على تشويه صورة عرب الخليج في ذلك الوقت بأنهم "قراصنة"، و أن و جود الأساطيل البريطانية كان "ضرورة حتمية" لقمع أعمال النهب و القرصنة.  و قد كشف المؤرخون، حتى البريطانيين منهم، السياسة الماكرة التي كانت تنطوي خلف ذلك الخطاب، و أن لعاب بريطانيا في ابتلاع خيرات المنطقة و الهيمنة عليها، كانت تسوق له ذرائع عديدة منها "حماية" سكان الخليج من "قراصنتهم" أنفسهم. و التاريخ يعيد نفسه، كما يقولون. فكما أعطت بريطانيا ظهرها للقراصنة الأوروبيين الذين كان يعج بهم المحيط الهندي في ذلك الوقت لتلتفت إلى ضحاياها من عرب الخليج الأبرياء، تقود أميريكا الآن حملاتها الشعواء ضد الأبرياء من عرب الرافدين متهمة إياهم بـ"الإرهاب"، في حين أن طاغوت الإرهاب الإسرائلي يلغ بلسانه في دماء الأطفال و النساء في فلسطين!
لست من دعاة الصراع بين الشرق و الغرب، لكن برنارد لويس كان لا بد أن يُرد عليه في مزاعمه. و إننا هنا في عمان، على سبيل المثال، قدمنا نموذجا للتواصل مع الآخر الأوربي عبر مسيرة الزمن. جاء إلينا الأوروبيون من أصقاع الأرض و شهدوا على قيم التسامح و حسن المعشر و الكرم. و قد كانت مسقط في القرون السابع و الثامن و التاسع عشر رمزا حقيقيا للمدينة "الكوزموبوليتن"، حيث عاش فيها المسيحيون و اليهود و البانيان يكتنفهم السلام و الأمن اللذان وفرههما لهم عرب مسقط، كما يؤكد ذلك الرحالة البريطانيون و الهولنديون و الفرنسيون و الأمريكان. يقول الرحالة البريطاني جون أوفينجتون، الذي زار مسقط سنة 1693: " هؤلاء العرب مهذّبون جداً في تصرّفِهم، وفي غاية اللطف إلى كُلّ الغرباء؛ فلا أذى ولا إهانة يمكن أن تصدر منهم لأي أحد؛ و مع أنهم متمسكون بمبادئهم، و معجبون بدينهم، فإنهم لا يفرضونها على أحد، وبإمكان المرء أن يسافر مِئات الأميالِ في هذه البلادِ دون أن يواجه أي كلام مسيء أَو أيّ سلوك قد يبدو وقحا".