الخميس، 20 يناير 2011

القبضُ على جَمْرة التاريخ: رواية "بِنْ سُولَعْ" لعلي المعمري

أسعدني صديقي الروائي علي المعمري بروايته الجديدة "بنْ سُولَعْ"، التي صدرت مؤخرا عن دار شرقيات بالقاهرة. و هو عمل تدور معظم أحداثه في لندن سنة 1977، السنة التي التحق فيها بطلُ الرواية، سريدان بن فطيس الحرسوسي، بكلية الدراسات الشرقية و الأفريقية (SOAS) التابعة لجامعة لندن، ليواصل دراساتِه العليا في موضوع التاريخ السياسي لشبه الجزيرة العربية. و "بن سولع" اسم من اللهجة العمانية يطلق على أجمل الغزلان المتواجدة في شمال عُمان، خاصة في منطقة "جدة الحراسيس"، و قد استعار المؤلف هذا الاسم ليطلق على بطل الرواية، سريدان. إن الإطار الزمني الذي تتحرك فيه أحداث الرواية، و هو مرحلة الخمسينيات و الستينيات و السبعينيات من القرن الماضي بعُمان، إطار مُلغّم لما شهده من غليانٍ سياسي لم تُعْطِه المصادرُ التاريخية العربية حقَّه من التوثيق، و ظلت أسرارُه مغيبة إلا عن زُمْرةٍ قليلة من المطلعين على الوثائق الأجنبية، خاصة الإنجليزية منها.
استطاع علي المعمري في هذه الرواية أن يقبض على جَمْرة التاريخ باقتدار باهر؛ فالعمل يكشف عن دراية كاتبه بأسرار تلك المرحلة التاريخية من جهة، و قدرته على الإمساك بخيوط السرد في نسيج متماسك، يضيع كثيرٌ من الكتّاب في متاهاته، من جهة أخرى. فالمادة التاريخية مغرية، و المنطقة ما زالت عذراء لم يَفترعْها الرواة بعد، و لكن المعضلة الحقيقية هي خلق نسيجٍ أدبي لَحْمتُة التاريخُ و سَدَاه الفنُّ، و هذا لَعَمْري عملٌ ليس بالهيّن، بل هو تحدٍّ يتقهقر دونه كثيرٌ ممن يدعون القصة و الرواية.
من يقرأ رواية "بن سولع"، و هي عمل نيّفت صفحاتُه على 400 صفحة، لا يدركه المللُ رغم جفاف التاريخ و قسوته في المصادر و الوثائق. و هنا، أعتقد بأن الكاتب نجح في إدارة الوثائق التي اعتمد عليها لصنع رواية مهمة وازنت بين الفائدة و المتعة. فالكاتب استطاع أن ينجو من أصعب مزالق "الرواية التاريخية" و هو الانسياق لا شعوريا إلى العواطف الجامحة التي تُمليها الوقائعُ التاريخية الحقيقية، فلم يتحول إلى واعظ تاريخي يستخلص العِبرَ من الأحداث، و لكنه ترك شخوصَ الرواية، إلا فيما ندر، تعيد صياغة التاريخ بأفعالها و سلوكها. إن كل شيئ في رواية "بن سولع" له دورُه في صياغة هذا التاريخ؛ و هذا في رأيي ما جعل السرد متماسكا من أول الرواية إلى آخرها. فالشخوص ليست عاطلة عن العمل، و الأحداث ليست مُترَفة، و الأماكن منسجمة مع هذا النسيج. لن أتحدث عن بطل الرواية، سريدان بن فطيس الحرسوسي، فهو العنصر الديناميكي الذي تعتمد عليه أحداث الرواية، و لكني سأشير إلى أشياء أو "شخوص" هامشية استطاع الكاتب أن يوظفها بجدارة في السرد. و من أمثلة ذلك، "الآنسر مشين" الذي لعب دورا مهما في الربط بين أحداث الرواية، فقد كان أمينا على المشهد و حارسا له في غياب البطل سريدان؛ ينوب عنه في غيابه الفيزيقي و في غيابه الميتافيزيقي؛ أي حين يكون خارج الشقة، و حين يكون داخلها محلقا في ماوراء الغيب بأجنحة الكؤوس و اللفائف. لقد كان "الآنسر مشين" مخزنا لأشياء متناقضة و معقدة بتعقد الحياة التي تتطلبها تلك المرحلة، متنوعة بين همسات حبيبة البطل ميثاء العُمانية، و فحيحِ عشيقته الإيرانية بروين مصدق، و شتائم صديقه عبيد بن باروت، و نصائح شقيقته من عُمان. و من العناصر الهامشية التي خففت من غُلواء التاريخ و عنف السياسة في الرواية، القط "حُمْرَان" الذي يصفه الكاتب بأنه أخذ حيزا كبيرا من حياة البطل سريدان؛ حيث أصبح يقلد حركة مشيه في الشقة و دفعه لأن يكون رائدا من رواد الحيوانات الأليفة في السوبر ماركت، بل يصفه الكاتب، على لسان البطل، بلغة ساخرة تنسجم مع السياق العام للرواية، و هو النقد السياسي اللاذع للاستعمار البريطاني :"لقد قلب القط الصغير حمران حياتي رأسا على عقب، أكثر بكثير مما قام به رجال وكالة الجراد، حين قلبوا الصحراء، زيفا و زورا، رأسا على عقب، و خلقوا بها المدن و البشر و الطائرات، و الطرقات". (ص 304). لم يكن القط "حُمران" فقط رفيقا للبطل في وحدته بل كان أيضا حارسا يقظا لـ "قرحة العافية" في الشقة، الوطن الصحراوي البديل لـ "بن سولع" و الذي اصطنعه الكاتب بسخرية مريرة من عبث الاستعمار الإنجليزي في شبه الجزيرة العربية خلال تلك المرحلة.
       لقد توفر لرواية "بن سولع" عوامل أخرى تجعلها من أهم الأعمال الروائية في عُمان. فبجانب أهمية المرحلة التاريخية التي دارت في فلكها، و قدرة الكاتب على ربط الأحداث، تناولت الرواية ثيمات تعتبر من المسكوت عنه أدبيا و أيديولوجيا. و من هذه الثيمات، التفرقة العنصرية القائمة على اللون و المكانة الاجتماعية. و قد تناول الكاتب هذه الثيمة بأسلوب نقدي رافض لها، و لكنه أيضا بعيد عن الوعظ و الخطابة؛ فقد جاءت على شكل حوار بين بطل الرواية سريدان و صديقه العابث عبيد بن باروت، لنعلم من الحوار الصورة النمطية التي كرستها الذاكرة الاجتماعية في عُمان خلال تلك المرحة حول من يسمون بـ "العبيد" أو "الموالي"؛ فعبيد بن باروت يسخر من صديقه سريدان حين عرّفه على حبيبته ميثاء العمانية، و ينصحه بأن "يبعد عن الشر و يغني له"، لأن "جذور العبيد واضحة في دمها و لونها، و ربما كل شيء بها هو صنيعة العبيد، بغض النظر عن لون بشرتها الفاتح" (ص 107).  و لكن الكاتب ينجح في اختراق هذا التابو الاجتماعي بأن يجعل بطله ينتصر لحبه و يتخلى عن حسناوات لندن ليتزوج عن قناعة و حب جارف من حبيبته ميثاء العمانية، الفتاة اليتيمة التي تربت في بيت سيدها سباع بن نطلة.
الثيمة المحورية الأهم التي تتناولها الرواية بوعي سياسي حاد، هي غطرسة الاستعمار البريطاني في شبه الجزيرة العربية خلال تلك المرحلة، و هي من المحرمات في سياسات بعض دول المنطقة. يستغل الكاتب كل الفرص الممكنة لتعرية عوار هذا الاستعمار متسلحا بأسلوب السخرية و نبش الأسرار الدفينة من الوثائق التاريخية الأجنبية. في محاضرة من كلية الدراسات الشرقية و الأفريقية (SOAS)، الأداة المعرفية للاستعمار البريطاني كما يصفها إدوارد سعيد في كتاب الاستشراق، يذكر لنا الكاتب على لسان بطله سريدان موقفه مما أملاه عليهم البروفيسور "الأعرج" مالكولم كامبل: "لقد شدني و سحبني التركيز و هو يشير بعصا العتم التي يتوكأ عليها، و يهش بها على مسارات الضوء المنبعثة من عدسة جهاز عرض الشرائح، و له فيها أيضا مآرب أخرى، كي يصل بنا إلى تلك الفداحات التي ارتكبت في ذبح الواقع على أرض كأنها بلا أحد، و لا تدخل في أملاك غير وكالة الجراد، و هيمنة المستعمر البريطاني عليها. و عندما وصل إلى ما خلفه الخطان، البنفسجي و الأزرق، ظهرت جلية الجريمة الشنيعة التي ارتكبها رجال الاستعمار"، و يضيف: "و لا شك بأن الباحث، و هو يشير إلي، سوف يكمل ما لم أكمله عن مشكلة الواحات الناجمة عن قسمة السيد بيرسي كوكس في سهرة سكر ليلي، و هو يخط بيده على خرائط شبه الجزيرة العربية، ليقول هذا يخص القبيلة الفلانية، و هذا يخص القبيلة العلانية." (ص 203). و من الحيل التي يستخدمها الكاتب في نقده اللاذع للاستعمار البريطاني رسم صور كاريكاتيرية مضحكة لجنرالات الإمبراطورية و ضباطها. يقول مثلا في وصف رقيب متقاعد من الجيش الإنجليزي، كان يخدم في فرقة كشافة عمان بقاعدة الشارقة العسكرية، و اسمه جم براين: "و بينما كنت أسألها عن يومها بالأمس إذا بشخص قصير جدا، يشبه في مشيته مشية كلاب البحر، أو البط الزاحف، يقترب رافعا قبعته الأسكتلندية." (ص 104). و يتحدث عن بيرسي كوكس، الذي يرى الكاتب بأنه قسّم شبه الجزيرة العربية، و هو ثمِل، فأعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، بأنه "اليهودي الشاذ...و الرجل الأبيض المخمور، و العميل السري للمخابرات البريطانية و لوكالة الجراد". (ص 158). و يصف الكاتب على لسان بطله سريدان أستاذه السير البروفسور مالكولم كامبل بكلمات ساخرة مثل ""الأحمق العجوز" و "الوعل المستنسخ"، رغم أنه كان من المشجعين له في بحثه (ص 18-20). ليس هذا فحسب، و إنما سخرية الكاتب اللاذعة كانت حاضرة حتى حين عرض على سريدان أساتذتُه في جامعة لندن منحة لمواصلة الدكتوراه، فهو يقول: "لقد تذكرت مقولة شهيرة قالها حكيم من قديم الزمن، و أنا أدخل البوابة الرئيسية لكلية الدراسات الشرقية و الإفريقية، أنه حين يُشبع الطغاة شراستهم يتحولون إلى رجال طيبين". (ص 320).
من الأساليب التي نجح الكاتب في استخدامها للتخفيف من ثقل الوثائق السياسية و عبء التاريخ، أسلوب التصوير الساخر؛ فالسارد يعتمد على خلق صور كاريكاتورية تعتمد على التشبيه غالبا، و تتزيّى بلغة شعرية مدهشة. و لا يتكلف المعمري في نحت هذه الصور، بل تأتي صوره سلسة و منسجمة مع السياق الذي يتحدث عنه.  و هو أيضا يبدع في اشتقاق عناصر الصورة من الواقع الذي تدور الرواية في فلكه. يقول مثلا واصفا فكرة النزوع البشري لتجاوز الأمكنة و كسر حدود الجغرافيا: "و جلست أهز رأسي و يدي الممسكة بكأس الطلا، و كأنني أسمع أصوات كعوب و حوافر ركض بن سولع، مخلفة نقع أتربة بمواطئها في الصحراء، بدلا من أصوات قرقعات الثلج في كؤوس رفعناها نخب حل مشكلة كريستي هذه الليلة" (ص 134). و في موضع آخر يصور السارد لحظة من لحظات التجلي التي يبدو أنه أسرف في تقمصها خلال مسيرته الروائية: "طرقت باب جاري الإيراني محمد مصدق، في العاشرة مساء، و كانت سيجارة بوب مارلين جعلتني مسترخيا نشوان، و كنت أشعر بخطواتي السلحفائية الخفيفة و البطيئة تنقلني من أمام باب شقتي باتجاه شقة الجار، و كأن الزمن يتحرك بشكل لولبي، و يدفع بي إلى الأعلى ضد جذب الأرض" (ص 183). و يعمد الكاتب أحيانا إلى خلق صور مضحكة لشخوصه في الرواية، و لكنها في الحقيقة تنطوي على نقد لاذع للواقع الذي أوجدها أكثر من نية الإضحاك و السخرية. يقول مثلا في وصف أحد الشيوخ خلال تلك المرحلة، و هو الشيخ سباع بن نطلة (الاسم متخيل و رمزي طبعا): "كان بن نطلة قصير القامة مربوعا بكتفين تجعلان من هيئته إذا جلس و كأنه مستعد للانقضاض و القفز إلى أي شيء طارئ يبتان أكثر من طوله" (ص 211).
ثمة سمة بارزة أيضا في رواية "بن سولع"، و هي نزوعها إلى التثقيف(informative novel) ، أي تثقيف القارئ المفترض بمعارف دقيقة حول بعض الأماكن و الشخوص الواردة في النص الروائي. و هو اتجاه مختلف حوله في علم السرديات من حيث أهميته أو عدمها. و إذا كان البعض يرى بأنه يثقل كاهل النص بمعارف و ثقافات لا تحتملها طبيعة الفن السردي، فإن آخرين يرون بأنه عمل مشروع تقتضيه فكرة أن الرواية في الأصل شكل من أشكال الثقافة. و عليه، ضمن هذا الرأي الأخير يمكننا أن نتقبل الفقرات، بل الصفحات، التي كان السارد يدسها في ثنيايا الأحداث دون أن نشعر بنشازها عن السياق. و من أمثلة ذلك، المعلومات الدقيقة التي قدمها الكاتب عن حي سوهو في لندن، و هي معلومات دقيقة تبهر القارئ عن التاريخ الفني و الثقافي لهذا الحي الذي أصبح الآن مجرد مرتع وخيم للذة و الجنس. و هكذا يعلم القارئ بأن هذا الحي كان ملجأ لمشاهير الفن و الشعر و الفكر من أمثال كازانوفا، و كارل ماركس، و ويليام بليك، و داروين (ص 151-153). لم تكن المعلومات التي قدمها الكاتب محشورة في النص رغم أنف السياق، بل كانت طبيعية جدا جاءت على لسان إحدى شخصيات الرواية و هي الفتاة الإنجليزية كريستي، و هي تطوف ببطل الرواية سريدان في حانات و مطاعم سوهو. و يقاس على هذا، المعلومات الدقيقة التي جاءت على لسان معشوقة سريدان الإيرانية، و هي بروين مصدق، متحدثة فيها عن ديانة أمها قبل أن تسلم و هي الزرادشتية (ص 194-195).
و الخلاصة أن رواية "بن سولع" عمل خلاق، يشكر عليه الكاتب علي المعمري؛ لأنه استطاع كما ذكرتُ آنفا، أن يقبض على جمرة التاريخ بصبر و طول نفس كبيرين. و لكن الأمانة العلمية تقتضي أن ننوه ببعض نواحي القصور في الرواية، و هي قليلة على كل حال، و لا تقلل من أهمية هذا العمل. و من أهم جوانب القصور في هذا العمل، عدم التصرف في الاقتباسات التي اعتمد عليها الكاتب من الوثائق العربية و الأجنبية؛ أي أنه لم يغربلها بلغته الخاصة و اكتفى بنقلها كما هي في مصادرها و مضانها. صحيح أن هذا العمل ليس مرجعا تاريخيا حتى نطالبه بالتوثيق و سرد المصادر، إلا أنه أيضا ليس معفيا من الأمانة العلمية و لو بحسن التصرف في النقل، أو كما يعرف باللغة الإنجليزية (paraphrasing). و يلحظ القارئ بسهولة هذا الأمر في المعلومات التي تناولت الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر (ص 313-314). و كذلك المعلومات المتصلة بالتاريخ السياسي لدول الخليج العربي: عمان، و الإمارات، و البحرين، و الكويت، و قطر (ص 323-369).


الأحد، 5 ديسمبر 2010

لا جديد يا برنارد لويس

(هذا مقال نشرته في ملحق "شرفات" بجريدة عُمان تعقيبا على محاضرة ألقاها برنارد لويس بجامع السلطان قابوس الأكبر يوم 11 ديسمبر 2003 بعنوان "العالم العربي في القرن 21"، و أعيد نشره هنا لسبب مهم بالنسبة لي و هو أن الرقيب حينها ارتكب خطأ فادحا في حق نفسه، و حق الصحيفة، و حقي؛ ذلك أنه استبدل بكلمة الصهيونية في المقالة كلمة اليهودية! و هذا أمر جلل لأني لا أدين الديانة اليهودية، و لكني أدين الصهيونية و هي منظمة عنصرية أدانتها الأمم المتحدة، بما فيها سلطنة عمان، بقرار معلن سنة 1975 ورقمه 3379. و قد جاء فيه: "إن الجمعية العامة للأمم المتحدة تقرر أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، و قد طلبت حينها من رئيس التحرير حقا من أبسط حقوق الكاتب و هو التنويه بهذا الخطأ، و لكني للأسف لم أجد أذنا مصغية).
المقال:
حين أعلنت وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية عن قدوم (المستشرق رغم أنفه!) برنارد لويس، ضمن برنامجها الثقافي الطموح، كانت لدي رغبة محفوفة بالفضول لرؤيته أولا كشخص بارز في الغرب، إذ لا تقرأ سجالا حول الاستشراق إلا و اسم الرجل يلوح بين ثناياه. و ثانيا، لرؤيته و هو "يخاطب" عربا من أقصى الجزيرة العربية يفصلهم عن "الصراع في الشرق الأوسط" نأي جغرافي، إن لم يكن نأيا معرفيا و وجدانيا.
في سنة 1990، ألقى برنارد لويس محاضرة في قاعة توماس جيفيرسون، والتي تشرف عليها مؤسسة "الوقف القومي للعلوم الإنسانية" بواشنطن. و كان العنوان المعلن للمحاضرة " الحضارة الغربية: رؤية من الشرق"، إلا أن مجلة (شهرية أتلانتيك) نشرت المقالة في سبتمبر من نفس السنة تحت عنوان "جذور الغضب الإسلامي"، و ذيلته بسؤال"لماذا يمتعض معظم المسلمين، و بشدة، من الغرب، و لماذا يكون من الصعب تهدئة قسوتهم".
و في هذه المقالة، لا يبحث لويس بحث العالم المنصف عن "جذور" الغيظ العارم الذي يجتاح الشرق الأوسط تجاه السياسة الأمريكية في المنطقة، و لكنه بشكل دعائي مغرض يخلق صراعا بين الشرق و الغرب، جاعلا طرفيه العالم الإسلامي ب"رجعيته" و "أصوليته" و "إرهابه"، و الغرب و أميركا، أو "أوروبا و ابنتها" كما يحلو له أن يسميهما، بكل ما تتميزان به من "حضارة" و "علمانية" و "سلام". لويس لا يتحدث أبدا عن جذور الصراع المعروفة، و التي أصبح يدركها حتى رجل الشارع في أوروبا، متمثلة في الجرائم الأمريكية من قتل ملايين الأبرياء في أفغانستان و العراق، و الصومال و غيرها من بقاع الأرض، ناهيك عن دعم إرهاب الدولة الذي يشنه الكيان الإسرائيلي صباح مساء في فلسطين. بل إنه يذهب به التضليل في هذه المقالة كل المذاهب ليروج للسياسة الأمريكية ويلمع صورتها، مصورا جحافلها و ترساناتها الحربية في العالم الإسلامي بأنها بريئة من جريمة الاستعمار. يقول :"بالتّأكيد ليس في أيّ مكان في العالم الإسلامي، و لا في الشّرق الأوسط أو في أي مكان آخر، قد سمحت السّياسة الأمريكيّة لنفسها بارتكاب كوارث أو واجهت مشكلات مشابهة لتلك التي في جنوب شرق آسيا أو أمريكا الوسطى. ليس في العالم الإسلامي كوبا، و لا فيتنام، كما ليس هناك أيّ مكان يمكن أن تكون القوّات الأمريكيّة متورطة فيه بمقاتلين أو حتى مستشارين. لكنّ هناك ليبيا، و إيران، و لبنان، و موجة الكراهية التي تحزن،, و تنذر، و قبل كلّ شيء، تحير الأمريكان ". و فوق الزيف الذي تحمله قطعة كهذه، فإن ريح الصهيونية يكاد يتجشأ بها برنارد لويس في خطابه هذا. فإن إسرائيل و حدها من يقض مضجعها دول مثل إيران و ليبيا و لبنان!
و قد تملكني الضحك من الأعماق حين كنت أستمع لبرنارد لويس في مسقط و هو يحاول تأكيد ما قاله قبل ثلاثة عشر عاما منافحا عن الانتهاكات التي تقوم بها الجيوش الأمريكية في العراق، من أن مفهوم "الاستعمار" كما قرأه في المعجم لا ينطبق على اجتياح كهذا! و قد تملكني الأسى أيضا أن أحدا لم يستطع أن يرد عليه في حينها!
و أذكر أن مترجم لويس في المحاضرة المذكورة نبّه في البداية، ربما بإيعاز منه!، إلى أن الرجل يكره أن يقال عنه "مستشرق"، و يفضل، بدلا منه، و صف "مؤرخ". و لعل هذا الشعور اعترى لويس بعد الهجوم الشرس الذي صبه عليه إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) و سجالاته اللاحقة معه، فإن سعيدا "سلح عليه" كما يقولون في الأدب العربي! متهما إياه و لفيفا آخر من المستشرقين بأنهم "يُمرّغون أنف الثقافة في أوحال السياسة"، مشيرا بذلك إلى تخلي أمثال لويس عن الموضوعية و الصدق الذين يحتمهما الواجب العلمي، و لهاثه حول الأطماع السياسة كتلك التي يكتسبها الآن من جراء وقوفه مع عصابة حمقاء و حاقدة في البيت الأبيض.
و قد وددت لو استطعت أن أناقشه في مراوغته حول مفهوم "الاستعمار"، بأن أبسط المعاجم السياسية و العسكرية تفسر الاستعمار أو الإمبريالية بأنها "سياسة توسيع سلطة دولة ما بالاكتساب الإقليمي، أو بإنشاء هيمنة اقتصادية و سياسية على الدول الأخرى". و ما فعلته أميريكا في بعض من دول العالم الإسلامي هو أضعاف ما يفضي به هذا التعريف. و قد وددت حقا لو كان بإمكاني أن أذكّره بآراء كثير من الدارسين لنظرية "ما بعد الاستعمار" أو(Postcolonialism)  من أمثال جراتي سبيفاك و التي تؤكد بأن الخطاب الغربي نجح كثيرا في تبرير استعمار أوروبا لشعوب العالم الثالث خلال القرنين التاسع عشر و العشرين تحت شعار "المهمة التحضيرية" أو (Civilizing Mission)  ، و ذلك باعتقاد أن هذه الشعوب متخلفة تُعْوزها الحضارةُ الغربية، ولا بد من احتلالها. و كان ينبغي لبرنارد لويس أن يتذكر بأن شعار أميريكا في حربها ضد "الإرهاب" ، و سياسة دعم الديموقراطية في الشرق الأوسط هي جزء من خطاب ذرائعي يهدف بالدرجة الأولى إلى هيمنة سياسية و ثقافية. و لست أدري لماذا يحاول كثير من دعاة الإمبريالية الغربية، الآن، أن يستخفوا بعقول شعوب المنطقة في إعادة طرحهم لشعار "المهمة التحضيرية" و تبريرهم لنوايا النسر الأمريكي في المنطقة. و كشف مثل هذه الأقنعة لم يعد صعبا. لقد استخدمتْ بريطانيا مثلا في المنتصف الأول من القرن التاسع عشر نفس القناع باختلاقها و تضخيمها لمسألة "القرصنة" في الخليج العربي و بأنها كانت تهديدا حقيقيا للتجارة العالمية في بحر العرب و المحيط الهندي. و دأب الرحالة الإنجليز و ضباط شركة الهند الشرقية على تشويه صورة عرب الخليج في ذلك الوقت بأنهم "قراصنة"، و أن و جود الأساطيل البريطانية كان "ضرورة حتمية" لقمع أعمال النهب و القرصنة.  و قد كشف المؤرخون، حتى البريطانيين منهم، السياسة الماكرة التي كانت تنطوي خلف ذلك الخطاب، و أن لعاب بريطانيا في ابتلاع خيرات المنطقة و الهيمنة عليها، كانت تسوق له ذرائع عديدة منها "حماية" سكان الخليج من "قراصنتهم" أنفسهم. و التاريخ يعيد نفسه، كما يقولون. فكما أعطت بريطانيا ظهرها للقراصنة الأوروبيين الذين كان يعج بهم المحيط الهندي في ذلك الوقت لتلتفت إلى ضحاياها من عرب الخليج الأبرياء، تقود أميريكا الآن حملاتها الشعواء ضد الأبرياء من عرب الرافدين متهمة إياهم بـ"الإرهاب"، في حين أن طاغوت الإرهاب الإسرائلي يلغ بلسانه في دماء الأطفال و النساء في فلسطين!
لست من دعاة الصراع بين الشرق و الغرب، لكن برنارد لويس كان لا بد أن يُرد عليه في مزاعمه. و إننا هنا في عمان، على سبيل المثال، قدمنا نموذجا للتواصل مع الآخر الأوربي عبر مسيرة الزمن. جاء إلينا الأوروبيون من أصقاع الأرض و شهدوا على قيم التسامح و حسن المعشر و الكرم. و قد كانت مسقط في القرون السابع و الثامن و التاسع عشر رمزا حقيقيا للمدينة "الكوزموبوليتن"، حيث عاش فيها المسيحيون و اليهود و البانيان يكتنفهم السلام و الأمن اللذان وفرههما لهم عرب مسقط، كما يؤكد ذلك الرحالة البريطانيون و الهولنديون و الفرنسيون و الأمريكان. يقول الرحالة البريطاني جون أوفينجتون، الذي زار مسقط سنة 1693: " هؤلاء العرب مهذّبون جداً في تصرّفِهم، وفي غاية اللطف إلى كُلّ الغرباء؛ فلا أذى ولا إهانة يمكن أن تصدر منهم لأي أحد؛ و مع أنهم متمسكون بمبادئهم، و معجبون بدينهم، فإنهم لا يفرضونها على أحد، وبإمكان المرء أن يسافر مِئات الأميالِ في هذه البلادِ دون أن يواجه أي كلام مسيء أَو أيّ سلوك قد يبدو وقحا".

الخميس، 11 نوفمبر 2010

الهيئة الوطنية للترجمة و الأحلام الوردية

الهيئة الوطنية للترجمة و الأحلام الوردية
يتردد كثيرا على ألسنة المشتغلين بالترجمة في عُمان موضوع تأسيس جمعية للمترجمين العمانيين، أسوة بجمعية الكتّاب، و جمعية المحامين، و جمعية الصحفيين، و غيرها من الجمعيات الأهلية. و رغم مشروعية هذا الطموح، إلا أنه مفرط في الرومانسية و التحليق عن الواقع. و من يعرف واقع الجمعيات الأهلية و ما تعانيه من شح في المصادر المالية، و ما تكابده من معوقات في تحقيق أنشطتها و برامجها، يتعجب من طرح كهذا يزج بالترجمة، و تكاليفها المالية الباهظة، في عمل أهلي لم يختمر بعد في عمان، و لا تتوفر له قاعدة شعبية تسانده، و تعوزه المرونة القانونية في جمع المال. و من خلال اتصالي ببعض الأصدقاء في جمعية الكتاب مثلا، أعرف جيدا الصعوبات التي يواجهونها في توفير الدعم المادي لأنشطتهم، رغم أن كثيرا من هذه الأنشطة لا يتطلب إلا النزر اليسير من المال. فكيف يمكن لجمعية أهلية للمترجمين، في حال كهذا، أن تضطلع ببرنامج وطني شامل يتوخى ترجمة جميع ما كتب عن عمان، تاريخيا، و ثقافيا، و علميا، و اقتصاديا، و سياسيا، من شتى لغات العالم؟ بل أنـّى له أن يحقق حلم الكتاب و المثقفين العمانيين بترجمة إنتاجهم إلى اللغات الأخرى؟ و كيف له أن يترجم إلى اللغة العربية المنجزات الحضارية العلمية الأجنبية، و التي يمكن أن تدفع بعجلة التنمية في السلطنة نحو التقدم و المستقبل؟
إن تأسيس "هيئة وطنية للترجمة" ضرورة مُلحّة، و واجبٌ وطني ينبغي أن تضطلع به الدولة، و تغدق عليه من وافر نعمها. و لا يختلف اثنان على أهمية الترجمة في تقدم أية دولة، و ازدهار اقتصادها، و نشر حضارتها و ثقافتها، ناهيك عن دورها في تعزيز الفهم المشترك بين الشعوب. و تأسيس هيئة وطنية للترجمة في عمان له مسوغاته المختلفة التي أسوقها على النحو الآتي:
1-      تتميز عمان بكثرة المصادر و الوثائق الأجنبية المتوفرة حولها في المكتبات العالمية، و المواقع الالكترونية، و أرشيفات الصحف و الدوريات الأجنبية. و هذه الوثائق تشكل أهمية قصوى لتاريخ عمان و ثقافتها، لأنها تسد فجوة معرفية عظيمة في المصادر العربية المتعلقة بعمان. و المصادر العربية، على قلتها، تقتصر على تاريخ الحكام و صراعهم مع الأئمة، و تتجافى عن تاريخ الشعب العماني، بمختلف أعراقه و لهجاته، و عن عاداته و تقاليده، و أنماط سلوكه و تفكيره. إضافة إلى هذه الأهمية، فإن الوثائق الأجنبية المتصلة بعمان متعددة و تشمل:
أ‌-        قصص الرحالة و مغامراتهم في مختلف أرجاء عمان، من القرن الخامس عشر حتى يومنا هذا. هناك مئات الرحالة البريطانيين، و الأمريكيين، و الفرنسيين، و الهولنديين، و البرتغاليين، و الألمان، و غيرهم من مختلف أصقاع العالم، ارتادوا هذه المنطقة، و ما زالوا إلى الآن، و كتبوا عن تاريخ العمانيين، خاصة أيام الإمبراطورية العمانية التي بسطت نفوذها من بندر عباس على ضفاف الخليج العربي إلى شرق أفريقيا، بالإضافة إلى بعض الجزر الواقعة في المحيط الهندي. و قد تنوعت كتابات الرحالة ما بين كتب مستقلة، إلى فصول ضمن كتب عامة تتناول الشرق الأوسط، إلى قصص متناثرة في بعض المجلات المتخصصة في أدب الرحلات. و حسب إحصائيتي المبدئية، هناك حوالي خمسمائة وثيقة متصلة بالرحالة الأوروبيين في عمان، تنتظر الترجمة. و من أهم الأمثلة على هذه الرحلات التي لم تترجم رحلات القنصل البريطاني صمويل باريت مايلز، و هو من أبرز الرحالة الأوروبيين الذين شدوا الرحال على نطاق واسع في عمان. فلكونه معتمدا سياسيا وقنصلا بريطانيا في مسقط، استطاع مايلز أن يتجول في اتجاهات عدّة في عمان من 1874 إلى 1885. زار الأشخرة في سبتمبر سنة 1874 على متن البارجة (فيلومل) أو الهزار Philomel. و الرحلة الثانية في سبتمبر 1874 أخذت مايلز إلى قلهات و قد قدم من خلالها وصفا تاريخيا و جغرافيا عن المدينة. و في سنة 1875 وصل إلى صحار، و منها انتهز الفرصة لزيارة البريمي عن طريق وادي الجزي. و هنا قدم لنا مايلز –متأثرا باهتماماته التاريخية- وصفا مسهبا لكلتا المدينتين. و صعد مايلز في سنة 1876 إلى قمة الجبل الأخضر. بدأ الرحلة من بركا وتجاوزها إلى نخل حيث أخبرنا عن الجمال المعماري لمنازلها، و السمات المختلطة لسكانها، و ينابيعها الحارة، و قلاعها، و حصونها، وصناعتها. ثمّ عبر إلى العوابي حيث لاحظ أن الزعفران يستعمل من قبل النساء للزينة. ثمّ صعد الجبل الأخضر على حمار و كان معجبا بثبات و قوة تحمل هذا الحيوان. و بخصوص الجبل الأخضر، وصف لنا تأريخه وناسه وثماره وصناعته. و في فبراير سنة 1884 قام مايلز بزيارة وادي الطائين، و بذلك يعتبر أول أوروبي يصعد عقبة هذا الوادي. و في نهاية نفس السنة أبحر مايلز من ظفار  على متن السفينة (دراجون) Dragon مرورا بمرباط، و البليد، و جزر كوريا موريا. أما الرحلة النهائية لمايلز فقد أخذته إلى حدود "الصحراء العظيمة" أو الربع الخالي في ديسمبر سنة 1885. و في هذه الرحلة استطاع أن يجتاز معظم مناطق عمان بما فيها ازكي، و وادي حلفين، و منح، وأدم، و عز، و نزوى، وبهلا، و جبرين، و جبل الكور، و تنوف، و الحمرا، و عبري. و من عبري توجه إلى ضنك، و الرستاق، و السويق، و بركا. و طوال هذه الرحلة الشاملة تمكن مايلز من جمع تفاصيل هامة حول العمانيين وعاداتهم وأساليبهم وتاريخهم. و الحقيقة أن معظم رحلات السفراء الأوروبيين في عمان لم تترجم إلى الآن، عدا رحلة واحدة لصمويل مايلز، قمت بترجمتها و نشرها في جريدة الوطن خلال هذه السنة 2008. و من الرحلات التي تستحق الترجمة كتابات الإرسالية الأمريكية في عمان و التي قامت بتجوال واسع في المنطقة خلال النصف الأول من القرن العشرين. و من أشهر الرحالة و المبشرين الأمريكيين في الجزيرة العربية صمويل زويمر، الذي أسس بالاشتراك مع جيمس كانتين "الإرسالية الأمريكية العربية" في نيوجرسي، سنة 1889، و قد بدأت عملها في عمان بتأسيس "مستشفى الرحمة" في مطرح سنة 1909 بقيادة الدكتور جون شارون طومس.  قام صمويل زويمر برحلتين في عمان، الأولى كانت في مارس، سنة 1900، حيث انطلق من الشارقة إلى شناص حتى وصل صحار، و الثانية كانت في مارس، سنة 1901، بدأها من أبوظبي إلى البريمي، حتى صحار. نشر زويمر عدة أعمال تتعلق برحلاته في عمان و الجزيرة العربية، لعل من أهمها كتابه "الجزيرة العربية، مهد الإسلام"، ظهر في لندن سنة 1900. كما نشر رحلاته في بعض الدوريات، و منها "الأبواب المفتوحة في عمان، الجزيرة العـربية"، ظهرت في (المجلة التبشيرية للعالم)، سنة 1901، و "ثلاث رحلات في شمال عمان"، نشرت في (المجلة الجغرافية)، سنة 1902، و "عمان و شرق الجزيرة العربية"، ظهرت في (نشرة الجمعية الجغرافية الأمريكية)، سنة 1907، و "ملاحظات حول عمان"، نشرت في (المجلة الجغرافية الوطنية)، سنة 1911. و المبشر الآخر الذي تجول كثيرا في عمان الدكتور بول هاريسون، و قد عمل مبشرا ضمن الإرسالية الأمريكية في عمان خلال السنوات من 1909-1954. نشر هاريسون رحلاته هذه في كتاب بعنوان "طبيب في الجزيرة العربية" صدر في نيويورك سنة 1940، و ترجمه باختصار شديد محمد أمين عبد الله، و نشرته وزارة التراث و الثقافة سنة 1981. و قد نشر هاريسون أيضا عن نشاطاته التبشيرية في عمان مقالة بعنوان "عرب عمان"، ظهرت في (مجلة العالم الإسلامي)، سنة 1934.
ب‌-    الوثائق التاريخية، و السياسية، و العلمية، و هي إما كتب منشورة أو مقالات في الصحف و الدوريات العالمية بمختلف اللغات. و هذا كم هائل يصعب حصره، و لكني سأعطي أمثلة، على الأقل من الوثائق الإنجليزية. يتوفر في المكتبة البريطانية ما لا يقل عن ألف و خمسمائة كتاب يتعلق بعمان، كما يوجد بها حوالي ألف مقالة منشورة في الصحف و الدوريات.  و من الكتب الهامة التي ينبغي أن تترجم في هذا الصدد كتاب "الطريق إلى وبار" للمخرج السينمائي ومنتج الأفلام الأمريكي نيكولاس كلاب Nicholas Clapp. في سنة 1991، نظّمَ نيكولاس كلاب بعثتين إلى عُمان مع فريق، ضم علماء آثار، و جيولوجيين، و علماء فضاء، وبَعْض المُغامرين. و قد فَحصوا الأبراجَ في شصر، شمال ظفار، و وَجدوا دليلا يثبت أن المستوطنة تعود إلى 400 سنة قبل الميلاد. و قد خلصوا من تنقيبهم إلى أن وبار، أو إرم موجدة في شصر. و الحقيقة أن بعض الرحالة الأوروبيين، و علماء الآثار يعتقدون بأن إرم مدفونة تحت رمال جنوب عمان. فبعض المستكشفين مثل بيرترام توماس، و ولفريد ثيسجر، و ويندل فيلبس قد صرحوا في كتاباتهم بأن "المدينة المفقودة" موجودة في جنوب عُمان. و مثل هذه الكتب الآركيولوجية التي تنقب في حضارة عمان القديمة، جدير بالترجمة. و إثباتها بأن إرم "التي لم يخلق مثلها في البلاد" مطمورة في ثرى جنوب عمان مكسب حضاري عظيم، رغم شكوك البعض في نوايا علماء الآثار الذي اشتغلوا على هذا الموضوع. و هناك بعض الكتب التي لم تترجم حتى الآن، و هي مهمة لأنها تتناول التاريخ السياسي لعمان قبل سنة 1970، الفترة التي تندر فيها المراجع العربية. و من هذه الكتب كتاب إيان اسكيت "مسقط و عمان: نهاية مرحلة"، الذي صدر في لندن سنة 1974. كان اسكيت في عمان من سنة 1966 إلى سنة 1968 موظفا من قبل شركة "تنمية نفط عمان"، و قد  قدم في كتابه  معلومات مهمة عن مسقط، و مطرح، و الباطنة، و الشرقية، و الظاهرة. و نظرا لأن فترة  السّلطان سعيد بن تيمور اتسمت بالغموض و العزلة، فإن رواية اسكيت للأحداث والحياة في عمان خلال تلك الفترة تشكّل أهمية بالغة. و من المواضيع الهامة المسكوت عنها في عمان، و قد تناولتها الدراسات الإنجليزية موضوع الأنثربولوجيا، أو علم دراسة الإنسان. و من الكتب الهامة في هذا الموضوع كتاب "ما وراء البرقع في بلاد العرب: المرأة في عمان" للأستاذة النرويجية  يوني ويكان، المتخصصة في علم الأنثربولوجيا الاجتماعي.  قضت ويكان، في عمان، قرابة ثمانية أشهر خلال السنوات من 1974 إلى 1976، بصحبة زوجها عالم الأنثربولوجيا الشهير فريدريك بارت. و قد استغرقت ويكان معظم هذه الفترة في صحار لتدرس مجتمع المرأة من حيث ما تسميه بـ"العزل الصارم للنساء". و رغم هذه العزلة، تعتقد ويكان أن المجتمع الصحاري في ذلك الوقت، كان "يتعايش فيه الجنسان الرجال و النساء بمنتهى الرقة و السمو". ظهر الكتاب مترجما عن الدانمركية في شيكاجو سنة 1991.  
ت‌-    رسائل الماجستير و الدكتوراه، و هي أطروحات علمية غاية في الأهمية تتناول عمان في مجالات عدة تشمل الأدب، و التاريخ، و العلوم، و الزراعة، و الهندسة، و الطب، و النفط، و علوم الكومبيوتر، و الآثار، و التربية و التعليم. و لو اقتصرنا هنا فقط على الأطروحات الإنجليزية، لهالنا عددها المتاح في الجامعات البريطانية و الأمريكية، ناهيك عن الأطروحات المكتوبة باللغات الأخرى. و يشير، مثلا، موقع Index to Theses المتخصص في رسائل الدكتوراه التي أنجزت في بريطانيا من سنة 1716 حتى الآن، إلى وجود حوالي 300 أطروحة تتعلق بعمان في مختلف التخصصات. كما أن موقع ProQuest يشير إلى ما لا يقل عن 400 أطروحة ماجستير و دكتوراه تتعلق بعمان، أنجز معظمها في الجامعات الأمريكية و الكندية. و من الأطروحات المبكرة الهامة، التي تستحق الترجمة رسالة دكتوراه أنجزها قاسم علي شعبان في جامعة تكساس بالولايات المتحدة الأمريكية، سنة 1977، بعنوان "فونولوجيا عربية عُمان". درس فيها شعبان الأصوات اللغوية في اللهجة العمانية، معتمدا بالدرجة الأولى على لهجة أهل مسقط في ذلك الوقت. كما يمكنني أن أنوه أيضا برسالة دكتوراه أنجزتها أمل نديم غزال في جامعة ادمونتون، ألبرتا، بكندا، سنة 2005، بعنوان "الإسلام و العروبة في زنجبار: النخبة العمانية، العالم العربي، و صنع الهوية". تجادل أمل نديم في هذه الدراسة بأن العلاقات الوثيقة بين النخب العمانية في زنجبار في الفترة من 1880 إلى 1930، و الحركات الفكرية و السياسية في العالم العربي كونت مقاومة أيدلوجية للاستعمار. و تركز أمل نديم على دور الشاعر و المثقف أبي مسلم البهلاني في تعاطيه مع التيارات الفكرية في العالم الإسلامي حفاظا على الهوية العربية في زنجبار. و من الدراسات الهامة التي أنجزها الباحثون العمانيون، دراسة دكتوراه حول الأفلاج العمانية، أعدها الدكتور عبد الله الغافري في جامعة هوكيدو باليابان، سنة 2004، بعنوان "إدارة توزيع الماء في نظام ري الأفلاج بعمان". تناول الغافري في أطروحته التعريف العلمي للأفلاج، و استخدامات ماء الفلج، و إدارة الفلج، و كيفية توزيع ماء الفلج، و جدولة الري، و العدل في توزيع ماء الفلج، و المشكلات التي تهدد الأفلاج.
2-      إن معظم المؤلفات العمانية القديمة و الحديثة لم تترجم إلى أية لغة أجنبية. و ما يمكن الإشارة إليه هنا محاولة مبكرة و مهمة قام بها بعض المستعربين البريطانيين، و الذين زاروا عمان في القرن التاسع عشر. فقد ترجم جورج بيرسي بادجر كتاب "الشعاع الشائع باللمعان في ذكر أئمة عمان" لحميد بن محمد بن رزيق، و نشر ه في لندن سنة 1871، بعنوان:  "" History of the Imams and Seyyids of Oman from A.D. 661-1856، كما ترجم إدوارد تشارلز روس كتاب "كشف الغمة الجامع لأخبار الأمة" و نشره في كلكتا بالهند سنة 1874، بعنوان: Annals of Oman. و الحقيقة أن كنوز التراث العماني، من تاريخ، و أدب، و علوم، و فلك، و التي نشرتها وزارة التراث و الثقافة ينبغي أن تجد طريقها إلى اللغات الأوروبية، خاصة الإنجليزية، والفرنسية، و الأسبانية، و الألمانية، كما أن إصدارات نخبة من الأدباء العمانيين المحدثين، ممن تحققت تجاربهم و انتشرت أسماؤهم في العالم العربي ينبغي أيضا أن تنقل إلى اللغات الأجنبية. و في هذا الصنيع خدمة كبرى لعمان و ترسيخ لمكانتها التاريخية و الحضارية لدى الأمم الأخرى، كما أن فيها تصحيحا لصورة نمطية بغيضة قد تكرست في أذهان كثير من الأوروبيين، و هي أن عمان، كغيرها من دول الخليج العربي، مجرد دولة عائمة فوق بركة من النفط، و لا تملك جذورا حضارية في المنطقة. و أذكر في هذا الصدد ما جاء في كتاب "رحلات في بلاد العرب" للرحالة البريطاني جيمس ويلستد، الذي زار عمان سنة 1835، حيث زعم المؤلف أنه بحث جاهدا عن مثقفين في عمان، فلم يجد إلا واحدا له معرفة بعلوم الفلك و الأدب و العلوم بصفة عامة، و خلص من ذلك إلى أن عمان هي بلد الجدل الفقهي، بالإضافة إلى السحر و الشعوذة. و هذا الزعم من ويلستد ليس صحيحا، و يناقضه ما أثبته الأستاذ ويلكنسون من نشره لقائمة من المخطوطات العمانية تتوزعها علوم شتى في الطب و الفلك و الأدب و التاريخ. و لكن ويلستد لم تكن عربيته كافية ليطلع على مثل هذه الكنوز، كما أن المخطوطات العمانية حينها لم تكن بطبيعة الحال مترجمة إلى الإنجليزية. و رغم أن ما حصل لويلستد قد كان في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلا أن وضع المعارف العمانية الآن ليس أفضل حالا، فما زالت طي النسيان، لم يحق كثير منها، و لم يترجم أي منها!
3-      إن الهيئة يمكنها أن تقوم بدور فعال في تنشيط السياحة المحلية، و العربية، و الأجنبية، و ذلك من خلال تتبع المقالات اليومية في الصحف و المجلات العالمية، و خاصة الصفحات المخصصة للسياحة و السفر. و في مثل هذه الصفحات ينشر بعض السياح مقالات عن زياراتهم لعمان، و هي في الغالب كتابات إيجابية تصف إعجابهم بالتنوع الجغرافي للسلطنة، و سحر الجبال العارية و الشاهقة في المنطقة الداخلية، و فتنة الرمال في المنطقة الشرقية. و من يبحث في الصحف البريطانية فقط، على سبيل المثال، كالتايمز، و الجارديان، و الإندبندنت، يدهش من كثرة المقالات السياحية التي تعبر عن إعجاب السياح البريطانيين بعمان و طبيعتها المتنوعة. و من هذه المقالات ما نشره الصحفي البريطاني الشهير أدريان جل Adrian Anthony Gill في صحيفة التايمز يوم 29 يناير 2006. و هي مقالة يصف فيها رحلته إلى عمان مصحوبا فيها بولديه فلورا و علي، أثناء إجازة منتصف الفصل، و قد عبر عن دهشته من التنوع البيئي لعمان، و كتب عن حضارتها، و عن الأمن،  الذي لم يجد مثله في الشرق الأوسط. يقول جل، مبررا سبب قضائه لإجازته في عمان: "أريد لأطفالي أن يسافروا بتفاؤل و هدف. و عمان ليست مجموعة آبار من النفط. إنها إمبراطورية قديمة، شملت زنجبار و سواحل أفريقيا الشرقية، و بعض الموانئ في بلاد فارس".  و يضيف: "إن السبب الأكثر واقعية لاختياري المجيء إلى عمان هو تنوعها البيئي المدهش. إنها ليست كدول الخليج التي تتكون إما من بنايات زجاجية مكيفة أو من أكواخ أشجار تخفق فيها الرياح.  هنا أودية ذات واحات خلابة، و مياه عذبة باردة تتدفق متموجة من الجبال في شعاب و شلالات رائعة".  و لعل من أطرف ما كتبه السياح الأجانب في عمان و جمال طبيعتها ما نشره مايك هايويل-ديفيزMike Hywel-Davies، في مجموعة شعرية أصدرها في مسقط سنة 1999، بعنوان "عمان تزورها و لا تنساها ". في هذه القصائد، و الصور الجميلة المرافقة لها، يصف الشاعر جبل شمس، و رمال الشرقية، و البرك المائية في وادي بني خالد، و صيادي السمك، و مسابقة الثيران في الباطنة. يقول مثلا في وصف البرك المائية في وادي بني خالد:
على مدار السنةِ توجدُ في الوادي ينابيعُ طويلةٌ نديّة
تروي الليمونَ و النخيلَ، تمتصُّها مِضَخّةٌ
مُلتـَهِمةٌ، مُتـَدفـِّقةٌ، خَفـّاقةٌ
حِزَامُها يُطَقْطِقُ رُخَاءً في الصمتِ.
يَتوقّفُ، ساكِنـًا.
الصمتُ.
صَمْتٌ تلمسُه بعد ثـُغـَاءِ العنزةِ
وصيَاحِ الشَّـقـراق، و طنينِ الخُنـْفُسَاء.
يَتوقـّفُ.
يَصْمُتُ.
صَمْتٌ تلمسُه، تـَشْعُرُ به.
جافٌّ.
جفافَ عظمِ عِجْلٍ حتى البياض،
جفافَ مِلحٍ صَدئٍ، و سَعَفٍ فاسدٍ
صقلتـْه الشمسُ حتى اسْمَرَّ.
عَرَقٌ مالحٌ يَبْدأُ
يَسْتـَقْطِرُ قلبًا يَكتمُ خَفـَقـَانـَه و يُطـْلِقـُه بسُرعة
دَمًا مُتـَدفـِّقـًا راعِدًا.
في صمتِ الانتظارِ
يَقـْصِفُ الرعدُ أعاليَ الجبالِ البعيدة
بينما يَنـْهمِرُ المطرُ وابلا
مُولـِّدًا سيولا سَمْراءَ
تَجْرِفُ الطينَ و تطحنُ الحَصَى
تـَحْتـَفِرُ الصمتَ
تقتلعُ حشائشَ الربيعِ الهَشّةَ
و ينتهي هذا الهَيَجانُ
إلى رقائقَ من الوَحْلِ
و أسماكٍ لاهثةٍ و طحالبَ لزِجة.
تـَسْفعُ الشمسُ وجهَ الأرضِ
و يَذهبُ
الرُّعْبُ
و تمتدُّ بِرَكُ الوادي هادِئةً
عَذبةً و خِصْبة.
4-      يمكن للهيئة أيضا أن تقوم بترجمة الأعداد الكاملة لـ "مجلة الدراسات العمانية"، و هي مجلة رائدة في مجال التاريخ الثقافي و الطبيعي لعمان، تصدر باللغة الإنجليزية عن طريق وزارة التراث و الثقافة منذ سنة 1975، و قد صدر منها حتى الآن 14 مجلدا. و الدراسات المنشورة في المجلة بالغة الأهمية لأنها تركز على جوانب دقيقة في مواضيع الآثار، و الأنثروبولوجيا، المتصلة بعمان. و مثل هذه المواضيع لا تجد لها صدى في الدراسات العربية للأسف. فمن الدراسات التي نشرت في هذه المجلة: "قلهات في التاريخ العربي"، و "ابن مقرب و نينوه: حكاية شعبية من طيوي"، و "الشبابية: الناي المحلي لجبال الحجر الشرقي"، و "الحياة النباتية في جزر الحلانيات"، و "تحفة رائعة من العمارة العمانية في القرن السابع عشر"، و "الشواوية من أهل عمان الشمالية: مجتمع رعي في طريق التغير". و هي مواضيع تمس التاريخ الثقافي لعمان، و تكاد تكون مجهولة لدى القارئ العربي.
5-      في وسع الهيئة أيضا أن تقوم بدور رائد في السلطنة و الخليج العربي، و ذلك عن طريق تعريب العلوم التطبيقية، و كذلك العلوم الإنسانية، بتتبع المنجزات العالمية من مختلف اللغات و ترجمتها إلى اللغة العربية؛ مما يتيح للطلاب في جامعة السلطان قابوس، و الجامعات الخاصة، و الكليات التقنية متابعة مستجدات العلوم من مختلف التخصصات بسهولة ويسر. و هذا دور حضاري كبير تضطلع به الدول المتقدمة التي تسعى لرقي أبنائها و النهوض بطاقاتهم و ابتكاراتهم.
6-      تستطيع الهيئة أن تستوعب الكوادر العمانية من المتخصصين في الترجمة، و بذلك تسهم في خلق فرص العمل للعمانيين. و الملاحظ أن الترجمة الفورية على وجه الخصوص معدومة في السلطانة بمختلف مؤسساتها. و إنه لمن المخجل أن تستعين مثلا جامعة السلطان قابوس، و بقية الجامعات الخاصة، و كذلك وزارة الأوقاف و الشؤون الدينية، بمترجمين فوريين غير عمانيين أثناء عقد الندوات و المؤتمرات في السلطنة.
7-      يمكن للهيئة أن تسهم في عملية تطوير اللغة العربية، و ذلك بضخها بالمفاهيم والمصطلحات الجديدة، و تيسير استخدامها من قبل الباحثين، و المثقفين، و وسائل الإعلام. و في هذا الصدد يمكنها أن تتلافى ما وقعت فيه بعض مجامع اللغة العربية للأسف من عجز في مواجهة المصطلحات العلمية الحديثة.
8-      يمكن للهيئة أن تقوم بعلاقات شراكة مع الجامعات ومراكز البحث ومختلف المؤسسات المحلية و الدولية ذات العلاقة بالترجمة. و بهذا تستطيع أن تجعل عملية الترجمة في عمان عملية منظمة، تسير وفق خطط و استراتيجيات مدروسة، بعيدة عن العشوائية و الارتجال.
9-      في وسع الهيئة أن تنظم المؤتمرات و الندوات و ورشات العمل التي تساعد على تطوير المستوى المهني للمترجمين العمانيين، والنهوض بحركة الترجمة في عمان.
هذه بعض المسوغات التي بدت لي، على الأقل الآن في هذه العجالة، لضرورة تأسيس هيئة وطنية حكومية للترجمة، و إلا فإن الدراسة الشاملة لهذا الموضوع تتطلب وقتا للبحث في الأهداف، و الرؤية، و الرسالة، و المحتوى، و آليات التنفيذ. وحسبي من إثارة الموضوع تحريك الساكن، فهل له من أذن واعية؟

وقَفات مع شيخ المترجمين العمانيين

وقفات مع شيخ المترجمين في عُمان، محمد أمين عبدالله
لا أظن أحدا، من عامة المثقفين العمانيين و خاصتهم، يجهل الأستاذ محمد أمين عبدالله، شيخ المترجمين العمانيين دون منازع. فالرجل يملك رصيدا من الأعمال التي ترجمها، تنوء بها العصبة أولو القوة من المحترفين في الترجمة. فمنذ السبعينيات و حتى آخر نفس في حياته، كان يقدم للمكتبة العمانية عشرات المؤلفات المعنية بعُمان، ينقلها من الإنجليزية إلى العربية بلغة أدبية رصينة يفتقر إليها اليوم كثير من علوج الترجمة و هُجنائها في العالم العربي. تقرأ ترجماته فتشعر أن الرجل يمتلك ناصية اللغتين؛ المصدر و الهدف. قليلا ما تقف في كتاباته على أخطاء لغوية مما يقع فيه اليوم كثير من محترفي الترجمة، ممن قد يتقنون اللغة الأجنبية، ولكنهم للأسف لا يقيمون فاعلا و لا مفعولا في لغتهم الأم! و حسبه أيضا الريادة في هذا الفن فيما يتعلق بعمان؛ إذ كان فاعلا في الترجمة من الإنجليزية إلى العربية في وقت كان الكثير فيه من بني وطنه يعانون من أمية القراءة و الكتابة.
و مع ذلك فإن ترجمات محمد أمين المختلفة تعاني من بعض القصور في الترجمة. و لا أريد في هذه العجالة أن أدرس ترجماته دراسة منهجية، و إن كانت تستحق ذلك لكثرتها و تنوعها. و لكني بما يسمح لي به الوقت، أود تسجيل ملاحظات كنت قد دونتها إبان دراستي في إنجلترا لأدب الرحالة الأوروبيين في عمان. و هي وقفات متأنية تمت عبر مقارنات بين النص الإنجليزي و النص العربي في بعض أعمال محمد أمين، التي نشرتها وزارة التراث و الثقافة، و سأخص بالذكر منها هنا كتابي بيرترام توماس (البلاد السعيدة، 1981)، و (مخاطر الاستكشاف في الجزيرة العربية، 1981).
1-   الاختصار و الحذف في الترجمة:
قد يكون الاختصار و الحذف أمرين مشروعين في الترجمة الحرة، التي لا يلتزم فيها المترجم حرفيا بالنص الأصلي. و لكن هذا التصرف قد يؤدي، أحيانا، إلى مغالطات صعبة في الدراسات الثقافية أو المقارنة، التي تعتمد اعتمادا كليا على النص المترجم. و كثيرا ما يحذف محمد أمين في ترجماته، حذفا يصل أحيانا إلى ثلثي الكتاب. فكتاب (مخاطر الاستكشاف في الجزيرة العربية) لبيرترام توماس يتكون في نصه الأصلي من 293 صفحة، تم اختصاره في العربية إلى 83 صفحة. و حتى لو قلنا بأن المترجم اكتفى منه بالقسم المتعلق برحلات توماس في عمان و تجنب رحلاته في العراق، فإن هذا القسم يتكون أصلا من حوالي 178 صفحة، فأين ذهب أكثر من نصفه ؟. ثم إن المسألة ليست مسألة أرقام، و لكنها أخطر من ذلك؛ فهي تتعلق بحذف آراء هامة للمؤلف حول الثقافة في عمان و أنساقها. فقد أفسح توماس في كتابه هذا صفحات كثيرة للحديث عن بعض المظاهر الثقافية في عمان خلال الثلاثينيات من القرن العشرين، مثل تقاليد "البرزة" و إنشاد الشعر فيها، و طريقة جلب الماء من البئر، و شَيِّ اللحم على الحصى، و طريقة الأكل الجماعي و استخدام اليد فيها أو كما يعبر توماس بلغة ساخرة "غمس أبو خماس في جبل من الرز". بل انطمست في الترجمة العربية العديد من المواقف الانتقادية التي اتخذها توماس تجاه بعض المعتقدات العمانية مثل خلو المساجد الإباضية من الزخرفة، و اللجوء إلى الشعوذة و الأساطير في علاج بعض الأمراض، إلى غير ذلك مما يجعل الترجمة العربية جد فقيرة في دراسة آراء الأوروبيين و مواقفهم المختلفة من الثقافة العمانية. و ما كنت، شخصيا، لأعتمد على هكذا ترجمة في تحليل أدب الرحالة البريطانيين في عمان. و مثل هذه الترجمات فِخَاخ حقيقية لبعض الكسالى و المعوزين من ثنائية اللغة، حين يعتمدون عليها في تحليل الخطاب الغربي. 
و كتاب (البلاد السعيدة) قد يكون أحسن حظا من سابقه، فالحذف فيه أقل، و إن كان يصل إلى صفحات عدة. و سأقف هنا أمام حالتين، إحداهما أن المترجم حذف جملة في مقدمة الرحالة لكتابه، هي غاية في الأهمية و لا مبرر لحذفها لأنها تعكس موقفا أو رأيا لهذا الرحالة الأوروبي حول الإسلام، أو على وجه الدقة إسلام أهل عمان بشكل خاص. فبرترام توماس في معرض حديثه عن الأسباب التي جعلت الجزيرة العربية ”الأرض المحرمة“ على المكتشفين الأوروبيين في وقته، ذكر من جملة هذه الأسباب التعصب الديني لأهل المنطقة، و هو في ذلك يرى أنهم فرضوا الإسلام بالسيف. يقول توماس: ”ثانيا، عقيدة هؤلاء البدو، في التطبيق على الأقل، متعصبة و منغلقة. و لطالما اعتقدوا بأن فرض الإسلام بالسيف من الاستقامة في الدين.“ و نرى أن محمد أمين عبدالله اختزل هذه الفقرة في الترجمة هكذا: ”السبب الثاني: هو أن هؤلاء السكان متعصبون لعقيدتهم الدينية“. و هذا التصرف في النص الأصلي يؤدي إلى مغالطات خطيرة فيما لو قام باحث، معتمدا على الترجمة فقط، بدراسة أراء برترام توماس حول المسلمين و ثقافتهم في الجزيرة العربية. 
و الحالة الأخرى في هذا الكتاب أن المترجم حذف صفحة (29) من النص الأصلي، و في رأيي لا مبرر لحذفها، و إن كانت تحمل وصفا بشعا لأحد الولاة في صلالة بأنه "وجهه صفيق، و له عثنون خشن طويل، و هيئة مزرية"؛ لأن تحامل توماس على هذا الرجل كان عنصريا صارخا، و هو يحدثنا في نفس الصفحة بأنه كان يشكو من وضعه المالي الفقير، بينما يحصل الإنجليز على مبالغ طائلة في بلده. و ما كان ليصفه بهذه الأوصاف العنصرية لو لم يعبر عن رأيه السياسي هذا. و حذف مثل الآراء، كما ذكرت تحرم القارئ العربي من تكوين صورة دقيقة و واقعية حول مواقف الأوروبيين من الشرقيين، و فيضان عنصريتهم عن قصد و عن غير قصد أحيانا.
2- الإضافة في الترجمة:
إذا كان الحذف، رغم مزالقه الخطيرة، قد نجد له مندوحة أحيانا، فما الذي يمكن أن يبرر إقحام المترجم جملة أو فقرة في النص الأصلي؟ هذا ما كان يمارسه، للأسف، محمد أمين أحيانا في ترجماته، مما يزيف الحقائق، و يشوه الترجمة.  ففي كتاب (البلاد السعيدة) نسب إلى برترام توماس كلاما لم يقله، و هذا الأمر خطير أيضا في الدراسات المقارنة التي تعنى بآراء كتاب أجانب حول أمّة ما. لنقارن بين ترجمة محمد أمين لفقرة من كتاب ”البلاد السعيدة“، و بين ترجمتنا لها لتتضح خطورة هذا الأمر.
الترجمة الأولى (محمد أمين): ”بدأ اليوم بصلاة الصبح، و أخذ المرافقون الذين ناموا على العشب يستعدون ليومهم الجديد و قد أدى الشحرة و القرا الصلاة و هم جلوس في أماكنهم بعد أن تيمموا للصلاة، و قد سألت كيف يبيح مذهبهم الشافعي التيمم؟ ...أما العمانيون الثلاثة و هم من العناصر الإباضية المحافظة فقد توجهوا للوضوء من إحدى برك الماء، لأن مذهبهم لا يبيح لهم التيمم و كان الثلاثة يحملون بنادقهم معهم.“  
الترجمة الثانية (هلال الحجري): ”حان وقت صلاة الفجر، و نهض رفاقي، و قد ناموا على العشب، يظهرون بعض الحياة. انتصب فرادى و جماعاتٌ من القَرَى و الشحرة للصلاة بعد أن تيمموا لها، و قد عجبت من هذه السماحة في مذهبهم الشافعي. في حين أن ثلاثة من رفاقي العمانيين الإباضية كانوا حريصين على الشكليات، فانطلقوا، يحملون بنادقهم – ولن تجد أحدا في هذه الجبال يمشي دون سلاح – إلى بركة في الوادي، لأنهم يعتقدون أن صلاتهم لا معنى لها دون وضوء.“
أولى الملاحظات على النصين، أن في ترجمة محمد أمين، نعلم بأن رفاق توماس من الشحرة و القَرَى أدوا الصلاة جلوسا، و  الثانية أن المذهب الإباضي لا يبيح التيمم. و هذا تدخل في النص و عبث به لأن توماس لم يقل هذا على الإطلاق. و هنا يكمن الخطر، فعندما يأتي دارس لآراء توماس من خلال هذه الترجمة قد يتحامل عليه و لا ينصفه، و ما هو إلا ضحية للمترجم.
 و من أغرب الإقحامات التي مارسها محمد أمين، كانت في كتاب (مخاطر الاستكشاف) في صفحة (65). فبعد ترجمته لحكاية نقلها توماس من أحد مرافقيه البسطاء، و هي من قصص العامة دون شك، و تدور أحداثها حول الرسول الكريم، عليه الصلاة و السلام، و مروره هو و أصحابه برجل بخيل ذبح لهم قطة، ولكن الرسول علم بالأمر فنهى أصحابه عن الأكل، و نادى على القطة فخرجت حية و هربت، و سأل الرسول ربه أن يحاسب هذا الرجل على فعلته، و بالفعل –كما تقول الحكاية- حول الله الرجل إلى دابة لتكون حلالا و يأكلها كل الرجال!
إلى هنا و ينتهي توماس من سرد الحكاية، و لكن محمد أمين يضيف من عنده جملة ساذجة ليختم بها القصة: "و إن هذه القصة –دون مناقشة لها- لتدخل في النفس شعورا عميقا بقدرة الله و إرادته التي تجري على يد رسله من النبيين و الرسل".
أيعقل هذا! هناك أسئلة أقف حائرا أمامها و هي كيف استساغ محمد أمين هذه الخرافة التي يلوكها العامة ليذيلها بهذه الحكمة البلهاء؟ ثم ما الذي حمله على تقويل توماس، و هو غير مسلم، مثل هذا الاعتقاد؟ و هل يجوز أصلا أن يضيف المترجم شيئا من عنده إلى النص الأصلي؟
2-   الخطأ في الترجمة:
هناك كلمات و جمل نقلها محمد أمين إلى العربية نقلا خاطئا، و لا يَظنّنّ أحدٌ هنا بأننا نتصيد في الماء العكر، لأن مثل هذه الأخطاء لا تليق بسمعته كمترجم رائد، أولا، و لأنها، ثانيا، لا تعطي صورة دقيقة لموقف المؤلف و اتجاهه. و الأمثلة على ذلك كثيرة سنقتصر منها على كتاب (البلاد السعيدة). في صفحة (30) يتحدث توماس عن "تقلّب" أنظمة الحكم في الجزيرة العربية، و هو يرى أن هذا التقلب يسري في دم العرب وراثيا، و يستخدم لذلك هذه الجملة "Instability is the chief characteristic of any regime in tribal Arabia ". يترجمها محمد أمين بما لا يوحي إطلاقا بهذا الرأي الخطير لتوماس، هكذا "إن الفردية هي الطابع المميز للعلاقات القائمة بين القبائل العربية و هي شيء متأصل في وجدان الفرد العربي".
و من أطرف ما وقفت عليه في ترجماته الخاطئة، في صفحة (48)، حيث يذكر توماس أن من تقاليد العبيد في ظفار أن أي فرد منهم يخالف عاداتهم و تقاليدهم يتم خلعه و نفيه خارج طائفته، و هو يستخدم لذلك كلمة (ostracism ) التي تعني النفي خارج القبيلة. و لكننا نرى محمد أمين يترجمها إلى "الخصي"! و في هذا تشويه لعادات هذه الطائفة من البشر، التي ربما لا تريد المساس بتقاليدها. و هناك كلمات أخرى مثل (sophistication) التي يترجمها إلى سفسطة، و هي تعني الحنكة و المراس. و كلمة (disabilities) التي يترجمها إلى حقوق، و هي تعني العجز أو القصور، إلى غير ذلك من الهنات لا تليق به.
أما بعد، فقد يفهم من هذه الوقفات بأنها تتبع لعثرات المترجم و تصيد لأخطائه، و ليست الحقيقة كذلك. إن هي إلا ملاحظات أردت منها التنبيه إلى مزالق الترجمة و خطورتها في نقل الثقافات من لغة إلى أخرى. و من جهة أخرى فإنني لا أحمّل الأستاذ محمد أمين - رحمه الله- وحده كل هذه الأخطاء، فقد يكون الناشر، و هو وزارة التراث، قد مارس معظم هذه الهيمنة على النصوص الأصلية، من حذف و إضافة و لي لأعناق بعض الجمل مما لا يتفق مع أهواء بعض العاملين فيها. و لكن هذا أيضا مجرد حدس لا سبيل لإثباته ما دام المترجم قد قبل بنشر هذا الكتب موقعة باسمه، و لم ينشر، في حدود ما أعلم، تعليقا يستنكر فيه مثل هذا التدخل المريع من الناشر.

ترانيم تبشيرية في الخليج العربي

ترانيم تبشيرية في الخليج العربي


في سنة 1889م تأسست في نيو برَنْزويك بالولايات المتحدة الأمريكية حركة تبشيرية عرفت بـ "الإرسالية العربية" Arabian Mission، هدفها، كما أعلن في مشروعها، "تنصير شبه الجزيرة العربية". كان العقل المدبر، الذي تحمس للفكرة و نَظّرها ، هو البروفيسور جون لانسنج، أستاذ لغة العهد القديم و تفسيره بمعهد اللاهوت التابع لكنيسة الإصلاح بنيوجرسي.  تكون المؤسسون من صامويل زويمر، و جيمس كانتين، و فيليب فليبس، لكن زويمر و كانتين كانا المحركين الفعليين للإرسالية على المستويين العملي و الكتابي. خلال الفترة من 1891 إلى 1973، قامت الإرسالية عبر مراكزها الأساسية في البصرة و مسقط و البحرين و الكويت، بأنشطة تنصيرية واسعة في الخليج العربي تنوعت بين العمل الطبي، و الرحلات، و بيع الكتب المقدسة، و التدريس، و التبشير في الأسواق و التجمعات العامة. ربما لم تنجح الإرسالية في هدفها المعلن كما خطط لها، و لكنها نجحت في خلق خطاب ديني متراكم حول المنطقة تشتمل عليه مجلة الإرسالية Neglected Arabia أو "العربية المنسية"، و كذلك بعض الكتب التي ألفها أبرز المبشرين في الإرسالية مثل صامويل زويمر و بول هاريسون. خلال دراستي الحالية بجامعة كيمبريدج لصورة عُمان في هذا الخطاب الديني عبر منهج الاستشراق و الدراسات ما بعد الاستعمارية، لفت نظري وجود قصائد و ترانيم كانت تعزف في الكنائس، و تتصل اتصالا مباشرا بأنشطة الإرسالية في الخليج العربي. قمت بترجمة بعض هذه النصوص لأهميتها في تتبع الصورة المتخيلة حول عرب الجزيرة في أذهان المبشرين الأمريكان.
النص الأول هو أنشودة الإرسالية و قد ألفها البروفيسور جون لانسنج سنة 1889، و كانت بمثابة "النشيد الوطني" الذي يعزف في أية صلاة أو قدّاس حول الجزيرة العربية. و النص الثاني قصيدة ساخرة هجائية أشبه بالمناحة، كتبها القس  هنري هاريس جيسَب، المبشر المشهور في بيروت و الذي قضى ستين سنة مبشرا في العالم العربي. يستنهض القس جيسَب، بأسلوب تحريضي هجائي، "مجلس الخارجية" في كنيسة الإصلاح بأمريكا الذي تقاعس عن دعم "الإرسالية العربية" في بداية المشروع. نشرت القصيدة في مجلة الإرسالية سنة 1910.  و النص الثالث ترنيمة قام بتأليفها القس بيتر زويمر، الأخ الأصغر لصامويل زويمر و أحد المؤسسين لمركز الإرسالية في مسقط، مستعينا بقصيدة شهيرة للشاعر الأمريكي بَيَرْد تيلَر عنوانها "أغنية  حب بدوية" لحّنها الملحن الأنجلو-إيطالي سيرو بينسوتي. نشرت الترنيمة في مجلة الإرسالية سنة 1914. و النص الرابع،  قصيدة كتبتها فرانسيس تومْز، من أطفال الإرسالية الذين ولدوا في الجزيرة العربية. رجعت إلى أمريكا في سن المراهقة للدراسة و لم تعد، و لكنها نشرت سنة 1919 في مجلة الإرسالية هذه القصيدة المعبرة عن طفولتها في الجزيرة العربية و شوقها إليها. أما النص الأخير فهو قصيدة  للشاعرة الأمريكية إليزابيث باتون موس، نشرتها في مجلة الإرسالية سنة 1934، حين كانت مبشرة في بلاد فارس. القصيدة تؤكد الفكرة الأساسية التي ينطلق منها معظم المبشرين التابعين لـ "الإرسالية العربية"، و هي أن إسماعيل هو أصل العرب، و أحفاده الآن في الجزيرة العربية ورثوا صفاته التي جاءت في الكتاب المقدّس: " َيَكُونُ إِنْسَاناً وَحْشِيّاً يُعَادِي الْجَمِيعَ وَالْجَمِيعُ يُعَادُونَهُ، وَيَعِيشُ مُسْتَوْحِشاً مُتَحَدِّياً كُلَّ إِخْوَتِهِ" (تكوين إصحاح 16)!.     





1- ترنيمة الإرسالية العربية
بروفيسور جون لانسينج
هناك أرضٌ مَنسيّة منذ زمن
هناك قومٌ ما زالوا منبوذين
لكنّ الربَّ اصطفاهم للحق و الرحمة
من أجل حُبِّه لهم
****
أرقُّ من هفهفة النسيم في لياليهم
و أوفرُ من خيامِهم الشاردة
و أقوى من رمالِهم المَنيعة
هو حُبُّه لهم
****
إلى المسلمين في عُقْرِ دارِهم
و من أجلِ العَبْد النازفِ في قيدِه
إلى البَدويِّ الضارعِ في الصحراء
فلنَجْلِبْ حُبَّ الرَّبِّ لهم
****
عَبْرَ وَعْدِ الرَّبِّ في كتابه المُقَدَّس
عَبْرَ تضحيته طوالَ التاريخ
عَبْرَ الصليبِ الذي تَوّجَ الدهورَ
فلنُرِيهم حُبَّه لهم
****
بالصلاة المُعينةِ دائما
بالقوِّة المُهيمنة
بالحُبِّ الذي لا يَنْضَب
فلنُبلّغ حُبَّه لهم
****
إلى أبناءِ الصحراء الغُرباء
إلى قبائلِها و مَمَالِكِها
إلى ملايين بلاد العرب السعيدة
فلنُمجّد حُبَّه لهم.



2- لا تَصْدَعُوا بها
القس هنري هاريس جيسَب
لا تَصْدَعُوا بين الوَثنيّينَ بأنّ السفينةَ على حافّة الساحل
إنها مُحمّلة بالخَلاص، و الرَّبِّ، و الرُّبّانِ-
لكنّ المَدَّ انحسر و تركها عاليةً و يابسةً،
مدٌّ من ذهبٍ و فضّةٍ، و هدايا غاليةٍ و رخيصةٍ،
عُمْلاتٍ ذهبيّةٍ و دولارات، سنتاتٍ و أقلَّ منها،
تدفّق إلى قنواتٍ أخرى، من قسوةِ الزمن.
****
لا تَصْدَعُوا بين الوَثنيّينَ بأنّ القطارَ خارجَ المَسَار
نَفِدَ الزيتُ و انقطع التيّار
"مجلس الخارجيّة" انحرف برُكّابه و حُمولته
و رسلُ الرحمة فيه عليهم الانتظارَ، رغم تلهفهم للمسير
كان الزيتُ وافرا، و القطارُ يجري بسهولة
و لكنّه ذهب قطرة قطرة حتى نَفِد.
|****
لا تَصْدَعُوا بين الوَثنيِّينَ بأن السَّيْلَ توقفَ عن التدفق
كان يتوالى من الجبال الشامخةِ مطرًا و ثلجًا و نَدًى
و تحوّل إلى نهرٍ و طوفانٍ، إلى جدولٍ و نُهيْر
لقد أبهجَ السهولَ و الجبالَ، البحيراتِ و التلالَ البعيدة
و لكنّه جَفّ! و العطاشى لن يشربوا بعد الآن،
لأنّ "مجلسَ الخارجية" مُهدَّدٌ بالديون المُكبِّلة!
****
لا تَصْدَعُوا بين الوَثنيّينَ، لا تَصْدَعُوا بين اليهود!
لا تَصْدَعُوا بين المسلمين، بهذه الأخبارِ الكئيبة؛
خشيةَ أنْ يَسْخَرَ أبناءُ جالوتَ منّا، و يُفشوا عارَنا
بأنّ الكنائسَ التي تَعهّدت بالحق و الولاءِ للمسيح
لم تَعُدْ تطيعُ أوامرَه، لم تَعُدْ تَكترثُ لصُراخِ
الملايين، التي ستُتْرَكُ الآن تموتُ بأحزانها!
|****
لا تَصْدَعُوا بها بين الوَثَنيّينَ، و لكن بُوحوا بها لسَيِّدِكم.
اجثوا على ركبكم، أيها المسيحيون، و قولوا كلمة الحق؛
"اعتقدنا بأنا أسلمنا أنفسَنا جميعَها إليكَ، لكننا الآن بقلوبٍ منكسرة،
نرى بأنا تخاذلنا في عطائِنا،
لذا، و باستسلامٍ كاملٍ، نهَبُ أنفسَنا كلها إليك".
حينها اصدعوا بين الوَثنيّينَ، بأنّ كنيسة المسيح حُرّة،
و أن مَدّ الحُبِّ يعلو لتطفوَ السفينة مرة أخرى،
و أنّ زيتَ النعمة يتدفّقُ ليجري القطار العالق،
و أنّ أنهارَ الرحمة قادمة كالطوفان،
لتمنحَ السعادةَ للأُمَم، و تُمجِّدَ رَبَّنا.

3- المسيح في سبيل بلاد العرب
القس بيتر زويمر

من الصحراء جاء إليكِ
يا بلادَ العرب! هذه أمنيتكِ,
مُخلّصُك و مليككِ.
إنه مَكْسوٌّ بالنار المقدَّسَة!
تحت سماواتكِ المُزَيّنة بالنجوم يقف,
و منتصفُ الليل يَسمع صيحتَه.
إنه يُحبُّكِ! نعمْ, يُحبُّكِ بشغف!
بحُبٍّ لا يمكن أن يموت!
بحُبٍّ لا يمكن أن يموت!
رغم أن الشمسَ تَخْصَرُ
و النجومُ تَذبُلُ
و صفحاتُ كتابِ القيامة تَتجلّى!
****
اسمعي كلماتِه العطِرة الرقيقة للسلام-
الخلاصُ من الخطيئة و العار!
انظري! إنّه يقفُ و يداه مبسوطتان
إنه مُوجَعٌ من استنكافكِ عنه.
أنصتي! إن نسيمَِ الليل يَهمِسُ,
بأن مُخلِّصَكِ يَعَْبرُ الآنَ
يداه مُسَمَّرتان و على جبينه تاجٌ شوكي
ينطق بحُبٍّ لا يمكن أن يموت!
رغم أن الشمسَ تَخْصَرُ
و النجومَ تذبل
و صفحاتِ كتابِ القيامة تَتجلّى!
****

ليلا خطواتُه منقادةٌ إليكِ
يدفعها الشوقُ من قلبِه
ليسمعَ من شِفاهِكِ المُلطّخَةِ بالإثم
الصلاةَ التي تبعثُ الطمأنينة.
افتحي بابَ قلبكِ,
لم يَعُدْ هذا الضيفُ مَجْحودا؛
دعيه يدخلْ و يُخبرْكِ الآن
عن حُبِّه الذين لا يمكن أن يموت!
رغم أن الشمسَ تَخْصَرُ
و النجوم تذبُل
و صفحات كتاب القيامة تَتجلّى!

4- إلى بلاد العرب
فرانسيس تومْز
بلادَ العرب, رغم أنكِ أرضي و موطني،
لا أملك إلا التعبيرَ عن شوقي إليكِ.
مطلعُ الفَجْر، الأقمارُ و النجومُ التي رأيتُها لأول مرّة في سمائكِ.
تباشيرُ ابتسامةِ الأم، و العنايةُ الأبويّة التي أحسستُها فيكِ.
حُبّي لإلهي الذي هو بعضٌ من حُبّي لكِ، يا بلادَ العرب!
لقد عرفتُ الجُزُرَ الصحراويّة للبحرين،
حيث اللآلئُ الجميلةُ تُوجد و تُطلب و تُباع
بأسعار نادرة لا تُعدّ.
حافيةَ القدمين ركضتُ على الشواطئ الرمليّة لأجمعَ الأصداف؛
و من الرِّمالِ المتحركة شيّدتُ مُدُنًا مُحصّنة بقطِعٍ
 من الأخشاب البيضاء الطافية؛ ثم غمرتُها، بخوف طفولي،
في ضحضاح بحر لانهائي.
خمائالُ رأيتُها في مسقط و البحرين؛
و رأيتُ النخلَ الرشيقَ في البصرة عطوفا و حانيا
على السواقي الرطبة.
لقد أحببتُ الجروفَ الوَعْرة في شاطئ عُمان.؛ العويلَ المُدوّيَ
 و حربَ الأمواج القاسية و هي تضربُ دون كلَلٍ
تلك الصخورَ الباسلة التي لن تستسلمَ أبدا.
أحببتُ كلَّ شيء فيكِ، و حُبي لكِ يزداد.
خلفَ شواطئِك الرميلة اللينةِ و صخورِك العارية
أرى أرضًا غنيّة- أرضيَ المَوعودةَ,
إنها اختياريَ الأبديُّ، أتوقُ، أتوقُ
إليكِ، يا مُنْيَة قلبي-يا بلادَ العرب.

5- إسماعيل- الربّ يسمع
إليزابيث باتون موس

إسماعيل! "الرَّبُّ يسمع!" اسمٌ أوحيَ به
ليكونَ أولَ أبٍ لجنسِ العرب
مُتوحِّشًا، فخورًا، مُتحدِّيًا، ابنَ أمَة،
قاطنًا وحيدًا للصحراء.
"يسمعُ الربُّ!" حين ضحك إبراهيمُ، غيرَ مُصدِّقٍ
و في شك ساخر، من الكلمة الموعودة،
متوسلا بأن يشاركَه إسماعيلُ، فتاه البكر،
الرعايةَ الإلهية-فأسبغ عليهما الربُّ بركتَه و نعمتَه.
"يسمع الربُّ" كاد الفتى أن يموتَ من العطش
و لكنه نجا حين انفجر ينبوعُ الماء في البَرّيّة
و ذاع صيتُه في كل مكان
و تم الاعترافُ بذرّيتِه كغُزاةٍ فاتحين.
"يسمع الربُّ" يتوسل الابنُ أن يكون قُرْبانًا
فيُفدَى الجميعُ بواحدٍ، بكبش
و يُرسل الشهيدُ مُتوَّجا بالنجوم
لينشر بذورَ الكلمة الطيبة، دون أملٍ في الحصاد.
"يسمع الربُّ" صلواتِنا.
ننظر استجابتَها من الواحةِ، و السوقِ، و الحريمِ المُظلم
لعلَّ قبيلة إسماعيلَ العاصية
نكسبُها بالحُبِّ، لتعودَ إلى الرعيّة الموعودة.