أسعدني صديقي الروائي علي المعمري بروايته الجديدة "بنْ سُولَعْ"، التي صدرت مؤخرا عن دار شرقيات بالقاهرة. و هو عمل تدور معظم أحداثه في لندن سنة 1977، السنة التي التحق فيها بطلُ الرواية، سريدان بن فطيس الحرسوسي، بكلية الدراسات الشرقية و الأفريقية (SOAS) التابعة لجامعة لندن، ليواصل دراساتِه العليا في موضوع التاريخ السياسي لشبه الجزيرة العربية. و "بن سولع" اسم من اللهجة العمانية يطلق على أجمل الغزلان المتواجدة في شمال عُمان، خاصة في منطقة "جدة الحراسيس"، و قد استعار المؤلف هذا الاسم ليطلق على بطل الرواية، سريدان. إن الإطار الزمني الذي تتحرك فيه أحداث الرواية، و هو مرحلة الخمسينيات و الستينيات و السبعينيات من القرن الماضي بعُمان، إطار مُلغّم لما شهده من غليانٍ سياسي لم تُعْطِه المصادرُ التاريخية العربية حقَّه من التوثيق، و ظلت أسرارُه مغيبة إلا عن زُمْرةٍ قليلة من المطلعين على الوثائق الأجنبية، خاصة الإنجليزية منها.
استطاع علي المعمري في هذه الرواية أن يقبض على جَمْرة التاريخ باقتدار باهر؛ فالعمل يكشف عن دراية كاتبه بأسرار تلك المرحلة التاريخية من جهة، و قدرته على الإمساك بخيوط السرد في نسيج متماسك، يضيع كثيرٌ من الكتّاب في متاهاته، من جهة أخرى. فالمادة التاريخية مغرية، و المنطقة ما زالت عذراء لم يَفترعْها الرواة بعد، و لكن المعضلة الحقيقية هي خلق نسيجٍ أدبي لَحْمتُة التاريخُ و سَدَاه الفنُّ، و هذا لَعَمْري عملٌ ليس بالهيّن، بل هو تحدٍّ يتقهقر دونه كثيرٌ ممن يدعون القصة و الرواية.
من يقرأ رواية "بن سولع"، و هي عمل نيّفت صفحاتُه على 400 صفحة، لا يدركه المللُ رغم جفاف التاريخ و قسوته في المصادر و الوثائق. و هنا، أعتقد بأن الكاتب نجح في إدارة الوثائق التي اعتمد عليها لصنع رواية مهمة وازنت بين الفائدة و المتعة. فالكاتب استطاع أن ينجو من أصعب مزالق "الرواية التاريخية" و هو الانسياق لا شعوريا إلى العواطف الجامحة التي تُمليها الوقائعُ التاريخية الحقيقية، فلم يتحول إلى واعظ تاريخي يستخلص العِبرَ من الأحداث، و لكنه ترك شخوصَ الرواية، إلا فيما ندر، تعيد صياغة التاريخ بأفعالها و سلوكها. إن كل شيئ في رواية "بن سولع" له دورُه في صياغة هذا التاريخ؛ و هذا في رأيي ما جعل السرد متماسكا من أول الرواية إلى آخرها. فالشخوص ليست عاطلة عن العمل، و الأحداث ليست مُترَفة، و الأماكن منسجمة مع هذا النسيج. لن أتحدث عن بطل الرواية، سريدان بن فطيس الحرسوسي، فهو العنصر الديناميكي الذي تعتمد عليه أحداث الرواية، و لكني سأشير إلى أشياء أو "شخوص" هامشية استطاع الكاتب أن يوظفها بجدارة في السرد. و من أمثلة ذلك، "الآنسر مشين" الذي لعب دورا مهما في الربط بين أحداث الرواية، فقد كان أمينا على المشهد و حارسا له في غياب البطل سريدان؛ ينوب عنه في غيابه الفيزيقي و في غيابه الميتافيزيقي؛ أي حين يكون خارج الشقة، و حين يكون داخلها محلقا في ماوراء الغيب بأجنحة الكؤوس و اللفائف. لقد كان "الآنسر مشين" مخزنا لأشياء متناقضة و معقدة بتعقد الحياة التي تتطلبها تلك المرحلة، متنوعة بين همسات حبيبة البطل ميثاء العُمانية، و فحيحِ عشيقته الإيرانية بروين مصدق، و شتائم صديقه عبيد بن باروت، و نصائح شقيقته من عُمان. و من العناصر الهامشية التي خففت من غُلواء التاريخ و عنف السياسة في الرواية، القط "حُمْرَان" الذي يصفه الكاتب بأنه أخذ حيزا كبيرا من حياة البطل سريدان؛ حيث أصبح يقلد حركة مشيه في الشقة و دفعه لأن يكون رائدا من رواد الحيوانات الأليفة في السوبر ماركت، بل يصفه الكاتب، على لسان البطل، بلغة ساخرة تنسجم مع السياق العام للرواية، و هو النقد السياسي اللاذع للاستعمار البريطاني :"لقد قلب القط الصغير حمران حياتي رأسا على عقب، أكثر بكثير مما قام به رجال وكالة الجراد، حين قلبوا الصحراء، زيفا و زورا، رأسا على عقب، و خلقوا بها المدن و البشر و الطائرات، و الطرقات". (ص 304). لم يكن القط "حُمران" فقط رفيقا للبطل في وحدته بل كان أيضا حارسا يقظا لـ "قرحة العافية" في الشقة، الوطن الصحراوي البديل لـ "بن سولع" و الذي اصطنعه الكاتب بسخرية مريرة من عبث الاستعمار الإنجليزي في شبه الجزيرة العربية خلال تلك المرحلة.
لقد توفر لرواية "بن سولع" عوامل أخرى تجعلها من أهم الأعمال الروائية في عُمان. فبجانب أهمية المرحلة التاريخية التي دارت في فلكها، و قدرة الكاتب على ربط الأحداث، تناولت الرواية ثيمات تعتبر من المسكوت عنه أدبيا و أيديولوجيا. و من هذه الثيمات، التفرقة العنصرية القائمة على اللون و المكانة الاجتماعية. و قد تناول الكاتب هذه الثيمة بأسلوب نقدي رافض لها، و لكنه أيضا بعيد عن الوعظ و الخطابة؛ فقد جاءت على شكل حوار بين بطل الرواية سريدان و صديقه العابث عبيد بن باروت، لنعلم من الحوار الصورة النمطية التي كرستها الذاكرة الاجتماعية في عُمان خلال تلك المرحة حول من يسمون بـ "العبيد" أو "الموالي"؛ فعبيد بن باروت يسخر من صديقه سريدان حين عرّفه على حبيبته ميثاء العمانية، و ينصحه بأن "يبعد عن الشر و يغني له"، لأن "جذور العبيد واضحة في دمها و لونها، و ربما كل شيء بها هو صنيعة العبيد، بغض النظر عن لون بشرتها الفاتح" (ص 107). و لكن الكاتب ينجح في اختراق هذا التابو الاجتماعي بأن يجعل بطله ينتصر لحبه و يتخلى عن حسناوات لندن ليتزوج عن قناعة و حب جارف من حبيبته ميثاء العمانية، الفتاة اليتيمة التي تربت في بيت سيدها سباع بن نطلة.
الثيمة المحورية الأهم التي تتناولها الرواية بوعي سياسي حاد، هي غطرسة الاستعمار البريطاني في شبه الجزيرة العربية خلال تلك المرحلة، و هي من المحرمات في سياسات بعض دول المنطقة. يستغل الكاتب كل الفرص الممكنة لتعرية عوار هذا الاستعمار متسلحا بأسلوب السخرية و نبش الأسرار الدفينة من الوثائق التاريخية الأجنبية. في محاضرة من كلية الدراسات الشرقية و الأفريقية (SOAS)، الأداة المعرفية للاستعمار البريطاني كما يصفها إدوارد سعيد في كتاب الاستشراق، يذكر لنا الكاتب على لسان بطله سريدان موقفه مما أملاه عليهم البروفيسور "الأعرج" مالكولم كامبل: "لقد شدني و سحبني التركيز و هو يشير بعصا العتم التي يتوكأ عليها، و يهش بها على مسارات الضوء المنبعثة من عدسة جهاز عرض الشرائح، و له فيها أيضا مآرب أخرى، كي يصل بنا إلى تلك الفداحات التي ارتكبت في ذبح الواقع على أرض كأنها بلا أحد، و لا تدخل في أملاك غير وكالة الجراد، و هيمنة المستعمر البريطاني عليها. و عندما وصل إلى ما خلفه الخطان، البنفسجي و الأزرق، ظهرت جلية الجريمة الشنيعة التي ارتكبها رجال الاستعمار"، و يضيف: "و لا شك بأن الباحث، و هو يشير إلي، سوف يكمل ما لم أكمله عن مشكلة الواحات الناجمة عن قسمة السيد بيرسي كوكس في سهرة سكر ليلي، و هو يخط بيده على خرائط شبه الجزيرة العربية، ليقول هذا يخص القبيلة الفلانية، و هذا يخص القبيلة العلانية." (ص 203). و من الحيل التي يستخدمها الكاتب في نقده اللاذع للاستعمار البريطاني رسم صور كاريكاتيرية مضحكة لجنرالات الإمبراطورية و ضباطها. يقول مثلا في وصف رقيب متقاعد من الجيش الإنجليزي، كان يخدم في فرقة كشافة عمان بقاعدة الشارقة العسكرية، و اسمه جم براين: "و بينما كنت أسألها عن يومها بالأمس إذا بشخص قصير جدا، يشبه في مشيته مشية كلاب البحر، أو البط الزاحف، يقترب رافعا قبعته الأسكتلندية." (ص 104). و يتحدث عن بيرسي كوكس، الذي يرى الكاتب بأنه قسّم شبه الجزيرة العربية، و هو ثمِل، فأعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، بأنه "اليهودي الشاذ...و الرجل الأبيض المخمور، و العميل السري للمخابرات البريطانية و لوكالة الجراد". (ص 158). و يصف الكاتب على لسان بطله سريدان أستاذه السير البروفسور مالكولم كامبل بكلمات ساخرة مثل ""الأحمق العجوز" و "الوعل المستنسخ"، رغم أنه كان من المشجعين له في بحثه (ص 18-20). ليس هذا فحسب، و إنما سخرية الكاتب اللاذعة كانت حاضرة حتى حين عرض على سريدان أساتذتُه في جامعة لندن منحة لمواصلة الدكتوراه، فهو يقول: "لقد تذكرت مقولة شهيرة قالها حكيم من قديم الزمن، و أنا أدخل البوابة الرئيسية لكلية الدراسات الشرقية و الإفريقية، أنه حين يُشبع الطغاة شراستهم يتحولون إلى رجال طيبين". (ص 320).
من الأساليب التي نجح الكاتب في استخدامها للتخفيف من ثقل الوثائق السياسية و عبء التاريخ، أسلوب التصوير الساخر؛ فالسارد يعتمد على خلق صور كاريكاتورية تعتمد على التشبيه غالبا، و تتزيّى بلغة شعرية مدهشة. و لا يتكلف المعمري في نحت هذه الصور، بل تأتي صوره سلسة و منسجمة مع السياق الذي يتحدث عنه. و هو أيضا يبدع في اشتقاق عناصر الصورة من الواقع الذي تدور الرواية في فلكه. يقول مثلا واصفا فكرة النزوع البشري لتجاوز الأمكنة و كسر حدود الجغرافيا: "و جلست أهز رأسي و يدي الممسكة بكأس الطلا، و كأنني أسمع أصوات كعوب و حوافر ركض بن سولع، مخلفة نقع أتربة بمواطئها في الصحراء، بدلا من أصوات قرقعات الثلج في كؤوس رفعناها نخب حل مشكلة كريستي هذه الليلة" (ص 134). و في موضع آخر يصور السارد لحظة من لحظات التجلي التي يبدو أنه أسرف في تقمصها خلال مسيرته الروائية: "طرقت باب جاري الإيراني محمد مصدق، في العاشرة مساء، و كانت سيجارة بوب مارلين جعلتني مسترخيا نشوان، و كنت أشعر بخطواتي السلحفائية الخفيفة و البطيئة تنقلني من أمام باب شقتي باتجاه شقة الجار، و كأن الزمن يتحرك بشكل لولبي، و يدفع بي إلى الأعلى ضد جذب الأرض" (ص 183). و يعمد الكاتب أحيانا إلى خلق صور مضحكة لشخوصه في الرواية، و لكنها في الحقيقة تنطوي على نقد لاذع للواقع الذي أوجدها أكثر من نية الإضحاك و السخرية. يقول مثلا في وصف أحد الشيوخ خلال تلك المرحلة، و هو الشيخ سباع بن نطلة (الاسم متخيل و رمزي طبعا): "كان بن نطلة قصير القامة مربوعا بكتفين تجعلان من هيئته إذا جلس و كأنه مستعد للانقضاض و القفز إلى أي شيء طارئ يبتان أكثر من طوله" (ص 211).
ثمة سمة بارزة أيضا في رواية "بن سولع"، و هي نزوعها إلى التثقيف(informative novel) ، أي تثقيف القارئ المفترض بمعارف دقيقة حول بعض الأماكن و الشخوص الواردة في النص الروائي. و هو اتجاه مختلف حوله في علم السرديات من حيث أهميته أو عدمها. و إذا كان البعض يرى بأنه يثقل كاهل النص بمعارف و ثقافات لا تحتملها طبيعة الفن السردي، فإن آخرين يرون بأنه عمل مشروع تقتضيه فكرة أن الرواية في الأصل شكل من أشكال الثقافة. و عليه، ضمن هذا الرأي الأخير يمكننا أن نتقبل الفقرات، بل الصفحات، التي كان السارد يدسها في ثنيايا الأحداث دون أن نشعر بنشازها عن السياق. و من أمثلة ذلك، المعلومات الدقيقة التي قدمها الكاتب عن حي سوهو في لندن، و هي معلومات دقيقة تبهر القارئ عن التاريخ الفني و الثقافي لهذا الحي الذي أصبح الآن مجرد مرتع وخيم للذة و الجنس. و هكذا يعلم القارئ بأن هذا الحي كان ملجأ لمشاهير الفن و الشعر و الفكر من أمثال كازانوفا، و كارل ماركس، و ويليام بليك، و داروين (ص 151-153). لم تكن المعلومات التي قدمها الكاتب محشورة في النص رغم أنف السياق، بل كانت طبيعية جدا جاءت على لسان إحدى شخصيات الرواية و هي الفتاة الإنجليزية كريستي، و هي تطوف ببطل الرواية سريدان في حانات و مطاعم سوهو. و يقاس على هذا، المعلومات الدقيقة التي جاءت على لسان معشوقة سريدان الإيرانية، و هي بروين مصدق، متحدثة فيها عن ديانة أمها قبل أن تسلم و هي الزرادشتية (ص 194-195).
و الخلاصة أن رواية "بن سولع" عمل خلاق، يشكر عليه الكاتب علي المعمري؛ لأنه استطاع كما ذكرتُ آنفا، أن يقبض على جمرة التاريخ بصبر و طول نفس كبيرين. و لكن الأمانة العلمية تقتضي أن ننوه ببعض نواحي القصور في الرواية، و هي قليلة على كل حال، و لا تقلل من أهمية هذا العمل. و من أهم جوانب القصور في هذا العمل، عدم التصرف في الاقتباسات التي اعتمد عليها الكاتب من الوثائق العربية و الأجنبية؛ أي أنه لم يغربلها بلغته الخاصة و اكتفى بنقلها كما هي في مصادرها و مضانها. صحيح أن هذا العمل ليس مرجعا تاريخيا حتى نطالبه بالتوثيق و سرد المصادر، إلا أنه أيضا ليس معفيا من الأمانة العلمية و لو بحسن التصرف في النقل، أو كما يعرف باللغة الإنجليزية (paraphrasing). و يلحظ القارئ بسهولة هذا الأمر في المعلومات التي تناولت الرحالة البريطاني ويلفريد ثيسيجر (ص 313-314). و كذلك المعلومات المتصلة بالتاريخ السياسي لدول الخليج العربي: عمان، و الإمارات، و البحرين، و الكويت، و قطر (ص 323-369).